عرفت دمشق منذ القدم بغزارة مياهها، وعذوبة ينابيهعا وكثرتها، ولئن كشف الواقع الحالي للمدينة عن شح في المياه بسبب كثافة السكان، واستخدامات المياه في مجالات كثيرة، ومواسم الجفاف التي حلت في العقود الأخيرة، غير أن المصادر التاريخية التراثية تؤكد على غنى المدينة بالينابيع، والأنهار...فقد كتب ابن جبير في رحلة قام بها إلى دمشق «إن أرض دمشق سئمت كثرة الماء، فاشتاقت إلى الظمأ»، فيما قال القلقشندي في (صبح الأعشى):«دمشق أزين من غيرها، وأكثر رونقا لتحكم الماء على مدينتها، وتسليطه على جميع نواحيها». ونظرا لهذه الغزارة في المياه فان المدينة عرفت أساليب كثيرة في جلب المياه لساكنيها، ففي العصر الروماني جرت مياه الشرب إلى المدينة بواسطة قناة ما زال بعض أقسامها قائما حتى اليوم في أحد أحيائها الذي يدعى (القنوات)، وثمة نظام فريد اتبع لإرواء المدينة حيث أقيمت خزانات على جانب نهر (القنوات) الذي يخترق المدينة، لتأخذ قسطا من مياهه بغرض إيصالها إلى البيوت والحارات، وكانت هذه الخزانات تسمى ب «الطوالع»، وقد كتب ياقوت الحموي في (معجم البلدان) معربا عن إعجابه بهذه الظاهرة القديمة بالقول «ومن خصائص دمشق التي لم أرَ بلدا مثلها، كثرة الأنهار بها، وجريان المياه في قنواتها، فقلَّ أن تمر بحائط إلا والماء يخرج منه في أنبوب إلى حوض يستقي منه الوارد، والصادر، وما رأيت مسجدا ولا مدرسة ولا حائطا إلا والماء يجري فيه في بركة صحن هذا المكان». ومن الأساليب الملفتة للنظر التي اتبعت في إرواء المارة أسلوب «السبيل»، وهو ظاهرة قديمة مرت بمراحل مختلفة، ومستمرة حتى الآن، الهدف منها توفير المياه العذبة للمارة والوافدين، فقد شيد حكام المدينة، وولاتها، وأثرياؤها في أماكن عديدة هذه «السبلان» التي لا تزال الكثير منها قائمة حتى الآن، كما عمدت مؤسسة مياه عين الفيجة (النبع الرئيس الذي يروي المدينة) في بداية القرن الماضي - بعد ان جرت المياه إلى المدينة بطرق حديثة - إلى إحياء ظاهرة السبلان والاهتمام بها فشهدت الأحياء، والطرقات، والأسواق الكثير منها، جنبا إلى جنب مع قيام بعض الأهالي ببناء مثل هذ السبلان على نفقته الخاصة ابتغاء ثواب الله في حركة تدل على طيبة أهل المدينة، وحرصهم على إغاثة الملهوف، والجائع، والعطشان. تعريف السبيل: والسبيل تعريفا وفق ما ورد في مجلة (العمران)، العدد (69)، الصادرة عن وزارة الإسكان والمرافق السورية: «هو ظاهرة إنسانية تستهدف إغاثة عابر السبيل بمياه الشرب العذبة النقية في كل طريق، وكل جادة، فلن يعرف زائر دمشق الظمأ، وهو يصادف الفوهات السخية تنتظره عند كل منعطف». ورغم وجود هذه السبلان منذ مئات السنين وبتقنيات مختلفة، إلا أن المصادر تشير إلى أن ظاهرة السبيل تكرست بشكل لافت في بدايات القرن الماضي إذ برزت في أواخر العهد العثماني، وتحديدا في عام 1908م الحاجة إليها حيث عانت مدينة دمشق حينذاك من تفشي الأوبئة، والأمراض نتيجة المياه الملوثة عندما كانت السيول تقذف الأتربة الحمراء في الأنهر خلال فصل الشتاء مما يجعل مياهها غير صالحة للشرب، وكان الشيء نفسه ينطبق على الآبار السطحية المحفورة في فسحة المنازل فكان الناس يلجؤون إلى ملء أوانيهم من بعض العيون حول المدينة مثل عين كرش، وعين الفيجة، وعين الزينبية، وعين علي...وغيرها غير أن هذه الطريقة كانت شاقة، فاستقر الرأي في ظل هذه الظروف القاسية وفي عهد الوالي العثماني ناظم باشا (ثمة حي في المهاجرين يحمل اسمه) على إسالة جزء من مياه الفيجة النقية إلى دمشق بأنابيب محكمة، وتوزيعه على سبلان منتشرة في المدينة، وقد تجاوز عدد هذه السبلان الأربعمائة سبيل يجري فيها الماء بمعدل ساعتين في الصباح والمساء تكفي لسد حاجة سكان المدينة من المياه العذبة، وبقي السكان يستفيدون من هذه الطريقة إلى ان تم تدشين مشروع إسالة المياه النقية إلى البيوت على أوسع نطاق في مطلع الثلاثينات إبان الانتداب الفرنسي على سورية. أشهر السبلان في المدينة: ويوجد عدد كبير من السبلان الأثرية في الأسواق، والأحياء، والطرقات والتي تلفت النظر بإطاراتها الرخامية، وفتحاتها الحجرية التي تتصدر حلقات من الزخارف، والنقوش وتزين واجهاتها ألواح من القيشاني، وتعلوها سطور من آي الذكر الحكيم، أو بعض الأحاديث النبوية الشريفة التي تحض على فعل الخير، كما تتضمن الكتابات تاريخ إنشاء السبيل، واسم الشخص الذي أمر ببنائه، وأسماء الأشخاص الذين أنشئت على نفقتهم، والملاحظ ان هذه السبلان كانت تقام، في أمكنة مكتظة بالسكان، بالقرب من المساجد أو المكتبات أو التكايا أو الأسواق أو المستشفيات(البيمارستان) بغرض أن يستفيد منها اكبر قدر من عابري السبيل والمارة. وعادة ما يستمد اسم السبيل من اسم المكان الذي يقام فيه، وبالتالي نعثر في مدينة دمشق على سبلان أثرية كثيرة تعرف باسم المنطقة التي توجد فيها، ففي حي الميدان نجد سبيل «زقاق الموصلي» الذي يعود تاريخ بنائه إلى العهد الأيوبي وتحديدا إلى سنة 637 ه، ومن العهد المملوكي هناك سبيل «البريدي» الذي يقع في منطقة السويقة، وتشير الكتابة المنقوشة عليه إلى ان تاريخ بنائه يعود إلى سنة 700 ه حيث أمر ببنائه علاء الدين البريدي، وهناك سبيل «الدرويشية» الذي يقع بالقرب من جامع درويش باشا الوالي الدمشقي الذي أمر ببنائه سنة 982 ه في الحي المنسوب إلى اسمه (الدرويشية) في باب الجابية... وفي العهد العثماني وتحديدا في أواخره انتشرت السبلان بكثرة لأسباب سبق ذكرها، ولعل أجمل سبيل يعود إلى هذا العهد هو سبيل «الحجاز» الواقع في ساحة الحجاز وسط المدينة أمام محطة الحجاز القديمة للقطارات وهو سبيل بني مع بناء المحطة في أواخر العهد العثماني، ويوجد كذلك سبيل «أبو الشامات» الواقع في منطقة القنوات، وسبيل «جامع الشيخ يعقوب» في حي الميدان، وسبيل «جامع الصوفانية» في حي باب توما، وسبيل «الشهداء» في حي الصالحية، وسبيل «سوق ساروجة»، وسبيل «جامع العريشة»...وغيرها، ويتعذر الحصول على رقم دقيق لعدد السبلان المنتشرة في المدينة لأنه، وباستمرار، تخرج بعضها عن الخدمة، وفي المقابل تقام الجديد منها، بيد ان الرقم المرجح هو ان عدد السبلان يصل إلى حوالي الثلاثمائة سبيل، ويذهب بعض الباحثين إلى ان ظاهرة السبيل تنحصر في دمشق، ويندر ان توجد في مدينة أخرى، وهي في كل حال ثمرة مباشرة لوفرة المياه. حكايات الذاكرة الشعبية: وتحتفظ الذاكرة الشعبية الدمشقية بحكايات، وقصص كثيرة كانت تصاحب ظاهرة السبيل في الماضي، ففي غياب وسائل الترفيه والتسلية الحديثة، كما هي الحال الآن، كان الناس يجتمعون في طقس يومي حول السبيل ويتجاذبون أطراف الحديث في مواضيع سياسية واجتماعية مختلفة، في جو أشبه بأجواء الأعياد، والمناسبات، ورغم استمرار وجود هذه الظاهرة حتى اللحظة، غير ان ظروف الحياة الاستهلاكية قد أفقدتها تلك الخصوصية التي كانت تستقطب الجموع في ألفة تكاد تكون مفقودة في هذا الزمن، بيد أن جو الاحترام لا زال سائدا، وإن بشكل قليل، فترى الناس يفسحون في المجال للعجائز، وكبار السن، والنساء، والأطفال في مشهد يعيد صورة الماضي بخجل بحيث لا يمكن مقارنته بما كان قائما في الماضي. وتقام السبلان الآن بجهود فردية وبدعم من الميسورين دون تدخل الجهات الرسمية سوى إعطاء الموافقة التي تؤخذ دون عقبات، كما ان الراغب في إنشاء السبيل لم يعد يكلف نفسه عناء إقامة سبيل مزين بالرخام، والقيشاني، والكتابات المنقوشة إذ يكتفي بوضع براد كبير أمام محلته فيشرب منه العابرون الذين يرددون البسملة والفاتحة النابعة من قلوبهم لتذهب بركتها إلى منشئ السبيل. وفي استطلاع شمل بعض الأهالي اجمع هؤلاء على ان «ظاهرة السبيل، ظاهرة إنسانية وحضارية، وهي دلالة على المحبة والألفة»، وقد استشهدوا بآيات قرآنية كريمة، وأحاديث نبوية شريفة في محاولة للتأكيد بان الماء عنصر ضروري وحيوي لا بد من توفيره بمختلف السبل للجميع، وذهب بعضهم إلى القول بضرورة «تكريس هذه الظاهرة، والعمل على زيادة عدد السبلان نظرا لاتساع المدينة، وزيادة كثافتها السكانية»، فالسبيل - بحسب الآراء - يمنح شوارع المدينة الألفة فهو يجذب العابرين، وهو محطة شعبية تحلو فيها الاستراحة لاسيما لأولئك البسطاء والفقراء الذين يجدون فسحة للراحة مع دفقة ماء عذبة تذهب تعب النهار.