غردت ذات يوم عن شاب صادفته في الممشى، وشاركني تجربته مع نوبات الهلع التي كانت تتكرر عليه مؤثرة سلباً على حياته النفسية والاجتماعية، وكيف تحسنت كثيراً بعد الانتظام في المشي. فعلق أحد أصدقائي من المتابعين في تويتر "والله لقد رأينا من عجائب المشي الشيءَ الغريب والعجيب، حتى صرنا كأننا دجالون، ولن يصدقنا إلا من جرّب المشي بانتظام وأصبح إنساناً آخر". تساءلت مع نفسي: هل يُدرك زملائي أطباء الصحة النفسية والأخصائيون النفسيون والمتخصصون في رعاية الأمراض النفسية كل ما ينبغي إدراكه عن علاقة المشي من بين الرياضات بالصحة النفسية؟ وبكونه علاجاً داعماً وقوياً لتحسين العديد من الأمراض النفسية؟ وهل يفعلون ما يجب لشرح هذه العلاقة للمرضى؟ وهل يحاولون متابعة آثار هذا العلاج السحري على مرضاهم؟ يدرك الكثيرون أهمية النشاط البدني والمشي على الصحة الجسدية، إلا أن الأثر الإيجابي للنشاط البدني على الصحة النفسية أقل انتشاراً، ولا يستثمر كما ينبغي. يقول بروفيسور مايكل أتو من جامعة بوستون "النشاط البدني شيء تأخر الأخصائيون النفسيون في تناوله". ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن المشي المنتظم من بين الرياضات يخفف التوتر، وهو أمثل علاج للإجهاد، ويحسن الانتباه والتركيز، ويحسن الأداء المعرفي عموما. كما أنه يحسن المزاج للمرضى الذين يعانون من درجات خفيفة ومتوسطة من الاكتئاب. بل يذهب عالم النفس السريري بروفيسور بلومنثال من جامعة ديوك الأمريكية إلى أن ممارسة النشاط البدني يمكن أن تماثل أثر الأدوية النفسية لمرضى القلق والتوتر ونوبات الهلع، ولمرضى الاكتئاب. كما وجد أن الانتظام في النشاط البدني والمشي يحد من فرص الانتكاس في حدوث حالات الاكتئاب. بل ذهبت إحدى الدراسات إلى أن مرضى المشكلات النفسية الذين يراجعون العيادات إذا طلب منهم المشي في الممرات قبل العيادة فإن ذلك يجعلهم مسترخين ومنفتحين أكثر على الحوار أثناء المراجعة. وأثبتت بعض المراجعات البحثية أن المشي يعطي آثاراً أفضل على المشكلات النفسية لدى الإناث أكثر من الذكور وأن التمارين الهوائية كالمشي أفضل من تمارين المقاومة، ووجدت دراسة نشرت في المجلة الاسكندنافية للطب النفسي أن ارتفاع اللياقة البدنية والجري لم يضف كثيراً إلى التحسن الذي يحدث بالمشي العادي وحده. وهناك الكثير المتناثر عن هذه العلاقة مما ينبغي جمعة وتبويبه ونشره. أما كيف يُحسِّن المشي الحالةَ النفسية لمرضى المشكلات النفسية، فيفسره بعض المتخصصين بإفراز مركب السيروتوينين ومركبات الإندورفين التي تعمل بعض الأدوية على زيادة إفرازها. كما أن الشعور بالإنجاز والانتهاء من النشاط المطلوب يشعر المريض بالقدرة على الاختيار والقرار والشعور بالإنجاز. بل إن مجرد بقاء الطاقة الحركية مخزنة وغير مستثمرة في جسم الإنسان هو أقرب للقلق والتوتر مقارنة بما لو تم تحريك تلك الطاقة. وقد يكون لتسارع النفس وتراكم كمية أكبر من ثاني أكسيد الكربون أحد الآثار المطلوبة لتحسين أعراض القلق ونوبات الهلع التي يضطرب فيها التنفس من دون داع لذلك. ومما يفسر آثار المشي على أمراض القلق والتوتر ونوبات الهلع أنه يشتت التركيز بعيداً عن مصادر القلق والتوتر، حيث يبدأ الإنسان أثناء المشي في التركيز على المناظر من حوله وإلى الشعور بتحرك الأشياء من حوله والشعور بهبوب الهواء وأعمال حواس البصر والسمع والشم…. كل هذا الانصراف والتشتيت يؤدي إلى الانشغال بأفكار أخرى بعيدة عن مثيرات القلق والتوتر. ومن أقوى الآثار التي تفسر أثر المشي الأمراض النفسية عموما أنه يجلب النوم بسهولة ويحسن جودته، مما يحد من حدوث نوبات القلق، ويحسن المزاج في حالات الاكتئاب، ويمثل عامل حماية للدماغ. ويضيف بعض العلماء أن مجرد رفع حرارة الجسم له تأثير مهدئ، وهذا ما يحدث بعد دقائق من بدء المشي. وإضافة إلى ما ذكر عن هذا الدور العلاجي للمشي لمشكلات الصحة النفسية، فلا ينبغي إغفال دوره الوقائي من تلك المشكلات وما صدر عن ذلك من أبحاث. كما ينبغي – في المقابل- التسليم بأثر محدود للمشي على الاضطرابات الأخرى مثل الاضطرابات الذهانية (كالشيزوفينيا والاضطرابات ثنائية القطب، واضطرابات الشخصية) وهي الأقل انتشاراً من بين الاضطرابات النفسية. أما لماذا المشي من بين الرياضات؟ فهناك كمّ لا بأس به من الأبحاث التي درست علاقة الصحة النفسية بالمشي من بين الرياضات، وتُرجع ذلك إلى عدة أسباب، منها ما يلي: – كمية الاسترخاء التي تصحب المشي مقارن بممارسة الرياضات الأخرى. – العلاقة المثبتة علمياً بين المشي تحديداً وتحسين القدرات العقلية، كحل المشكلات واتخاذ القرار والإبداع وتحسين القدرات الإدراكية Cognitive abilities. – ما يحمله المشي من محتوى اجتماعي، وفرص للتواصل مقارنةً بالرياضات الأخرى. – خصوصية المشي كرياضة تُمارَس خارج المنزل وفي البيئات المفتوحة. – ما ثبت علمياً بأن المشي في الطبيعة والبيئات المفتوحة يحسن القدرات الإدراكية. – المشي رياضة يقل فيها التنافس مقارنة ببعض الرياضات. وببساطة، فبما أن الدماغ بكل موصلاته العصبية يؤثر على كافة أجزاء الجسم فالعكس صحيح، فإذا تحسن أداء الجسم تحسن أداء الدماغ. ختاماً، كل ذلك يجعلني أدعو بدون تردد إلى تعليم طلاب الطب وطلاب الكليات الصحية، وإلى إثراء ما يتعرض له المتخصصون في علم النفس من تدريب لمعرفة المزيد عن النشاط البدني عموماً، والمشي خصوصاً وفوائده على الصحة الجسدية والنفسية ليكونوا أقدر على تقديم النصح للمرضى، وعلى مساعدة المرضى باستثمار هذا العلاج الرائع والمجاني، وعلى نشره بين مراجعيهم، وجعل ذلك من المسلمات إلى أن تنتفي عن المتحمسين للمشي تهمة أنهم دجالون كما يخشى ذلك صديقي في تويتر، ، ودمتم سالمين. د. صالح بن سعد الأنصاري SalihAlansari@ المشرف على مركز تعزيز الصحة @SaudiHPC