كان وما يزال الخطابُ العدائي تجاه شيخ الإسلام أحمد تقي الدين بن تيمية -رحمه الله تعالى- حاضراً في أذهان أعداء المعرفة والصلاح، وأرباب الفساد والجهل على اختلاف درجاتهم وتياراتهم، وهي بلا شك من السنن الكونية تجاه كل مجتهد ومخلص حمل على عاتقه نُصرة الحق والدعوة إليه. وبعض أصناف الخصوم تجاوز كل أدب للاختلاف ومجانبة الإنصاف وصولاً للافتراء والتجني. يتقدمهم في ذلك " الرافضة " من مردوا على هذه الطباع والأخلاق، بل تكون الغرابة حاضرة إذا جانبتهم في أي موضع من المواضع المتعلقة بعلماء أهل السنة، فلم يسلم من كذبهم النبي ولا صحابته الكرام ليسلم علماء الإسلام كشيخ الإسلام الذين اكتووا بصواعق الحق التي أشهرها عليهم؛ فدمغت بدعهم وفضحت شركياتهم، فأعقبتهم التوجع والعويل؛ سواء في حياته أو بعد مماته -رحمه الله- عبر ما ورثه من علم انتفع وينتفع به كثير من الناس. يماثلهم في تلك العداوة ونسج الأباطيل إخوة الضلالة من بقية الفرق المخالفة وأهل البدع بزعامة الصوفية وبخاصة غلاتهم. وبرغم صرامة الشيخ -رحمه الله تعالى- في رد الشبه ودحض البدع ونصرة دين الله تعالى بلا خشية أو مجاملة لأحد، لم يمنعه ذلك الخط من إنصافهم في مواضع الإنصاف، وهو ما يفتقده الكثير ممن يخالف الشيخ. وإن كانت طريقتهم في اتهام الشيخ والدعاوى التي تطلقها تلك الشاكلة من المخالفين غير مستغربة عليهم، إلا أن العجب والمصيبة أن يأتي التهجم والتشكيك في علم الشيخ من بعض حملة العلم الذين تخلوا عن كل مظاهر احترام الخلاف ورموا بالتهم يمنة ويسرة؛ كالمفتي السابق لصرح كبير مثل الأزهر "علي جمعة ": ("ابن تيمية" عمل "بلاوي" لكنه من علماء الإسلام)!! (بلاوي)، ما البلاوي؟ هل قرأنا له فتاوى متناقضة بلا دليل ظاهر مثلاً؟، أم هل علم عنه إرضاء السلطان بفتاوى " حسب الطلب"؟!، أم هل علم عنه الانتصار للذات عبر القدح فيمن خالفه؟!، ما البلاوي؟!! كتبه؟ طلابه؟ تأثر الناس به، نفع الله بعلمه؟!! إنه لمن المعيب أن يصدر كلام كهذا من حملة العلم وطلابه؛ ليكون باباً ومدخلاً لبقية المخالفين للطعن والتشويه في سيرة ومنهج بل جامعة متنامية العلوم كفكر الشيخ ابن تيمية رحمه الله تعالى، محتجين بأقوال أهل السنة! وأصدق وصف لهذه الادعاءات قولهم " رمتني بدائها وانسلت ". أما على مستوى الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي فقد برز قطيع الليبرالية وزمرة الهلوسة التنويرية الذين استعصى على إدراكهم فهم كلام الشيخ وما دعا إليه؛ فاتخذوا المنهج الذي يتناسب مع أفهامهم وضيق أفقها وهو الرفض وكيل التهم والطعن الصريح، وبث الخطاب المدجج بالكراهية والتشكيك؛ مثل إنكار أو التقليل في علم الشيخ -رحمه الله تعالى- بالفلسفة بكافة أبعادها ورده على كثير من الشكاك والفلاسفة، ونسبة التصرفات الفردية الغالية من بعض الأفراد والجماعات لمنهجه، ومثلها التكفير أو الغلو. ويتبين من خلال ما يطرحون عدم الوعي والجدية أو تقديم قناعة مدعمة بالدليل الساطع. ومن أمثلة ذلك الطرح الذي لا يرقى لدرجة النقد وتقصي الحقائق، بقدر وإنما هي تهم رميت جزافاً لغرض في نفوس كتابه، ما كتبه عبدالله بن بجاد في مقاله الذاكرة التراثية العوراء: (إنه ابن تيمية إذاً، هذا الفقيه الذي يعده البعض اليوم قطب رحى فكره العنيف الذي يحرق به أخضر البشرية ويابسها، وهو رجل يملك تراثاً غنياً لدرجة التناقض أحياناً!، ولكن العين التراثية العوراء لا تنقل لنا اليوم إلا شقه المتشدد العنيف وتغض الطرف عن بقية صورته، تلك الصورة التي تحاول بعض المراكز البحثية اليوم إظهار تنوعها الفكري بطريقة علمية ومنهجية ربما صدمت بعض محبيه حين تجبرهم على فتح عينهم الأخرى). فنرى الاتهام ولا نرى نقاشاً للقضايا التي هي مدار الاتهام والتي يدعون تناقضها! فمن اطلع على كتب الشيخ يعرف أنهم أنصفوا أنفسهم بوضعها بمكانها اللائق " قفص السخرية" أن يقارنوا عقولهم وأطروحاتهم البائسة بقامة علمية متعددة الآفاق مثل شيخ الإسلام، رحمه الله تعالى. شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- ليس ملكاً ولا نبياً مرسلاً، فكل يُؤخذ من قوله ويرد إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، لكن أعطني نقداً علمياً يوازي أو يرد أو يُثبت خطأ منهجه، أعطك احترامي لعقلك وبحثك، قبل إشغالي بتهريجك. ونموذج ثانٍ ممن اتخذ طريق التهريج وسيلة للتعبير عن الإفلاس الحقيقي تجاه قامة الشيخ ليصفه من باب التقليل بمكانته التي لم يبلغها الكاتب (التقنية الحديثة، وسهولة الحصول على المعلومة، وتمحيصها، والتأكد منها، تجعل ابن تيمية عند إنسان اليوم مثل (طويلب العلم) لا أكثر!). وهي عبارة مردودة على صاحبها، فإنسان اليوم يقتات على المعلومة السريعة التي سطرها الشيخ وأمثاله من العلماء الأجلاء دون تعب ولا كلل، إنسان اليوم الذي سخَّر التقنية لخدمة علوم ومؤلفات هذا العالم الجليل.. فما تقنية إنسان اليوم إن كانت ستجعل أمثال هؤلاء لا يكلفون أنفسهم بالنظر والفهم لجملة واحدة ممّا قد كتبه الشيخ! ومن مستوى الأفراد والجماعات يحضر الموقف الرسمي لبعض الدول كذلك، فمن الجزائر التي قامت بحظر كتب الشيخ في معرضها الدولي للكتاب إلى إقليم كردستان حيث جاء على لسان النقشبندي المتحدث باسم وزارة الأوقاف في حكومة إقليم كردستان، (الهدف من هذا القرار هو لحماية الشباب من التأثر بالفكر المتطرف). ولحقتهما الأردن التي قامت بالتحفظ على كتب الشيخ كإجراء احترازي بحجة أنها تغذي العنف. برغم أن هذه المؤلفات نفسها هي من ساهم في تشكيل وتغذية الهوية الإسلامية لدى الباحثين وطلاب الجامعات في تلك الدول. والحقيقة التي يتيقنها العقلاء: أن هذه الأباطيل لم ولن تنقص أو تضر سيرة هذا الشيخ الجليل، الذي أفنى عمره وشبابه متعلماً وعالماً ومنافحاً عن دين الله تعالى، إلى ما حباه الله تعالى من سعة أفق واطلاع على مختلف العلوم. ما ضره وقد كتب الله تعالى له القبول في قلوب المسلمين، وانتفعت الأمة بمؤلفاته وجهوده. فكم من الرسائل العلمية التي سجلت عن حياته وسيرته مباشرة، أو جوانب العلوم التي صنف فيها، أو المواضيع التي تناولتها كتبه، أو عصره ومحنه، أو القضايا التي رد فيها على المخالفين. وكم من آلاف الدعاة والعلماء الذين تتلمذوا على يديه ودرسوا كتبه فكانوا منارات أعلام هدى نفع الله بهم الإسلام في حياته -رحمه الله تعالى- وبعد مماته وفي مقدمتهم طلابه الأئمة: ابن القيم والحافظ المزي، وابن كثير، وابن عبدالهادي، والحافظ الذهبي، وابن مفلح، وآخرون. وكم من الجهود العظيمة التي بذلها في النفي عن كتاب الله تعالى تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، والرد على أهل البدع والعقلانيين، وهو -على تواضعه- كتب الله تعالى له القبول والهيبة عند السلطان. وتركه للمنهجية الصلبة التي تدرس ويحتذى بها في أخذه بالسنة ونبذه للبدعة والرد على أهلها. فضلاً عن الإرث العظيم الذي خلفه لكافة الأمة كثورة علمية تطول جل العلوم والمعارف. ماذا يقول الواصفون له *** وصفاته جلّت عن الحصر هو حجة لله قاهرة *** هو بيننا أعجوبة الدهر هو آية للخلق ظاهرة *** أنوارها أربت على الفجر ذاك وصفه حياً وميتاً، رحمه الله تعالى وجزاه عن الأمة خيراً. أما أرباب الباطل، ومن يحاولون صد الناس عن الانتفاع من علم الشيخ -رحمه الله تعالى- على كافة مناصبهم وأماكنهم وجهاتهم كجماعات وأفراد ودول، فأقول لهم: ضعوا كافة العراقيل ما أمكنكم في منع مؤلفاته، ووزعوا مرتزقة الكتاب من تشويه سمعته؛ لتساهموا في سرعة الإقبال عليها من آلاف الطامعين والباحثين والمنقبين والدارسين لهذا الشيخ الجليل، وشكراً للتقنية!!