في الوقت الذي كان العالم يتطلع إلى تدخل عسكري في سوريا، ولو كان حظراً جوياً يمنع القتل الجماعي الوحشي للأبرياء، على يد أقلية طائفية مجرمة و»إرهابية» بكل المقاييس، فاجأت فرنسا العالم بتدخلها العسكري في مالي بحجة مواجهة خطر إرهابي «محتمل» يهدد مصالحها في غرب إفريقيا والمغرب العربي. وفي غضون ذلك، لم تتوقف الولاياتالمتحدة عن اعتداءاتها بطائرات من دون طيار على اليمن وباكستان وأفغانستان واغتيالها من تصنفهم إرهابيين، أو تشتبه في كونهم إرهابيين. وبادرت فور الغزو الفرنسي لشمال مالي إلى الانحياز إليه وتوفير الدعم اللوجستي له. كان المشهد مألوفاً بشكل يدعو إلى الإحباط. ما يفعله الباطنيون بالشعب السوري على مدى سنتين ليس إرهاباً يهدد الإنسانية أو السلام الدولي، بينما اختيار سكان محليين في شمال مالي تطبيق الشريعة الإسلامية يهدد مصالح فرنسا، بل يحمل في ثناياه خطراً ينذر بعودة القرون الوسطى، ووقوف البعبع الإسلامي على شواطىء الأطلسي. صحيفة الواشنطن بوست ذكرت أن دعاية الرئيس الفرنسي هولاند التي سوّق بها تدخل قواته في مالي ارتكزت على حماية البلد الذي كان يوماً خاضعاً للكولونيالية الفرنسية من «الوحشية المروعة للإسلاميين الذين فرضوا نظام الشريعة في منطقة شمال مالي»، فضلاً عن «حماية فرنسا نفسها من «المتطرفين» (16 كانون الثاني/يناير 2013). جين فرانكوس دوغان، نائب مدير مؤسسة البحث الاستراتيجي في فرنسا أبلغ صحيفة الكريستيَن سيَنس مونتيور أن الرأي العام في فرنسا ينظر إلى «الجهاديين» في مالي بوصفهم نظراء لطالبان، ومحاربين للإسلام الإفريقي التقليدي، لاسيما تنفيذهم قوانين العقوبات الجسدية وعقوبة الإعدام (14 كانون الثاني/يناير 2013). الحملة على مالي حظيت بتأييد 75 في المئة من الشعب الفرنسي وفق استطلاع أجرته مؤسسة الاستطلاعات الفرنسية (بي في أي) في 15 كانون الثاني (يناير) 2013. هل هو الإسلام «المدمر» إذن؟ هل كانت دوافع الغزو، ببساطة، هي «الإسلاموفوبيا»؟ قد يكون «التهديد» الإسلامي عاملاً، لكن الفرنسيين اتخذوه غطاءً يخفي مصالح استراتيجية لهم في المنطقة، وهو ما قد يفسر جزئياً الفتور الذي أبدته دول أوروبية تجاه دعم التدخل. تبلغ مساحة مالي 1.240.00 كلم (ضعف مساحة فرنسا، أو ضعف مساحة أفغانستان، أو أكبر من نصف مساحة السعودية)، ويبلغ عدد سكانها 14 ونصف مليون نسمة، وهي غنية بالموارد الطبيعية. في النيجر المجاورة مناجم يورانيوم تزود ثلث المفاعلات النووية المنتجة للطاقة في فرنسا بالوقود النووي. تقول كاترين سولد، من المجلس الألماني للعلاقات الدولية، لإذاعة ألمانيا (دويتشه فيله) إن «لفرنسا مصلحة في تأمين الثروات الطبيعية في الساحل، لاسيما النفط واليورانيوم، والتي دأبت شركة أريفا الفرنسية للطاقة على استخراجها لعقود طويلة» (16 كانون الثاني/يناير 2013). المصالح إذن حاضرة بقوة ما يجعل التركيز على «الأصوليين» و «الإرهابيين» جزءاً من دعاية الحرب. محللون سياسيون رأوا في الحملة على مالي محاولة من الرئيس هولاند لتحسين صورته السلبية لاسيما ما يتعلق بعجزه عن اتخاذ إجراءات تنتشل الاقتصاد من وهدته، أو «لصرف الانتباه عن التحديات الاقتصادية الهائلة في البلاد» (صبرية بلند شودري، صحيفة ديلي تايمز الباكستانية، 17 كانون الثاني/يناير 2013). وبحسب صحيفة الوول ستريت جيرنل فإن تدهور الاقتصاد الفرنسي دفع البطالة إلى أعلى مستوياتها خلال أكثر من عقد طارداً أكثر من 10 في المئة من السكان القادرين خارج العمل. الحكومة تقدمت بمشروع لزيادة الضرائب بنسبة 75 في المئة على ذوي الأرباح الأعلى في البلاد، ولكنه ذهب أدراج الرياح بعد أن أبطلته المحكمة الدستورية العليا (15 كانون الثاني/يناير 2013). في أواخر العام الماضي خفضت مؤسسة موديز، وهي ثاني أكبر مؤسسات التصنيف الائتماني في العالم، تصنيف سندات الحكومة الفرنسية بمقدار درجة واحدة مبررة ذلك ب «الخطر الذي يهدد النمو الاقتصادي والأوضاع المالية للحكومة» بسبب «المشكلات الاقتصادية الهيكلية التي تواجهها البلاد»، وتقلص قدرة اقتصادها على المنافسة عالمياً (الجزيرة نت، 20 تشرين الثاني/نوفمبر 2011). في يوم الأحد 13 كانون الثاني/يناير الجاري غصّت حديقة شان دي مارس بجوار برج إيفل في باريس بالاحتجاجات. قدّر المنظمون عدد المحتجين ب 800 ألف، بينما وضعت الشرطة الرقم عند 340 ألفاً. لماذا؟ هل كانت المشكلة مالي؟ لا..كانت مشروعاً تقدم به الرئيس هولاند لتشريع زواج الشاذين جنسياً، ومنح الزوجين الشاذين الحق في تبني أطفال (الغارديان، 13 كانون الثاني/يناير 2013). ويبدو المجتمع الفرنسي منقسماً إزاء هذا المشروع الذي يصر هولاند على تسويقه تحت شعار «الزواج للجميع». الزعماء السياسيون عادة يفرون من الإخفاقات أو التحديات في ديارهم إلى خارج الحدود، ليواروا سوءاتهم، أو يمرروا برامجهم. يصعب ببساطة عزل الشأن الداخلي الفرنسي بتعقيداته عن مغامرة هولاند في مالي. لكن السؤال الأهم: ما هي هوية الجماعات التي تقاتلها فرنسا في ذلك البلد؟ وماذا عن جمعها كلها تحت لافتة «الإرهاب»؟ الصحافي الأميركي باري لاندو انتقد الإصرار الفرنسي على وصم هذه الجماعات كلها بالإرهاب، والارتباط بالقاعدة، مضيفاً: «لا يوجد إدراك للحقيقة التي مؤداها أن معظم الجماعات المقاتلة المختلفة مدفوعة بطموحات عرقية ووطنية قوية، قد لا تختلف، عن طالبان في أفغانستان» (كاونتر بنش، 18-20 كانون الثاني/يناير 2013). الصحافي الإيرلندي باترك كوكبيرن قال في صحيفة الإندبندنت البريطانية إن شعار «الحرب على «الإرهاب» دفاع مغرٍ، لكنه ليس بهذه البساطة»، إذ «علينا أن نفهم التحالفات الغريبة في مالي لنكتشف الولاءات المعقدة المتصارعة». يؤكد كوكبيرن أن «التمرد القومي الطوارقي، وليس الإسلام المتشدد، هو في قلب الأزمة في مالي»، وأن الصراع بين الطوارق في الشمال، والحكومة في العاصمة المالية باماكو، انفجر وأصبح الآن دولياً، مضيفاً أنه بالرغم من «كل الخطابة الفرنسية حول تهديد جماعة القاعدة في المغرب الإسلامي لأوروبا، فإن الجماعة لم تشن أي هجوم خلال العقد الماضي، واهتمت فقط بمضاعفة أموالها من خلال أخذ رهائن وتهريب سجائر وكوكايين» (20 كانون الثاني/يناير 2013). ينسى كثيرون أو يتناسون في غمرة هستيريا الدعاية أن الطوارق في شمال مالي (سنة مالكيون) عانوا طويلاً من التهميش والحرمان، وأن الحكومة المركزية نكثت مراراً وعودها لهم بتحسين أوضاعهم، وظلت تتهمهم بأنهم قطاع طرق وإرهابيون. في السادس من نيسان (أبريل) 2012، أعلنت الحركة الوطنية لتحرير أزواد، إحدى أكبر فصائل الثوار الطوارق، إقامة دولة أزواد في الشمال (يعيش فيها 3 ملايين شخص من قبائل الطوارق والعرب، وتعادل مساحتها مساحة فرنسا وبلجيكا معاً). برنامج (ديموكراسي ناو) الأميركي الشعبي، التقى بأميرة وودز، المديرة المشاركة لقسم «السياسة الخارجية تحت المجهر» في معهد دراسات السياسات في واشنطن، وسألها عن ما يجري في مالي، فقالت إن العلاقة بين ثوار شمال مالي والقاعدة «وحتى العلاقة مع القاعدة في المغرب الإسلامي هشة للغاية في أحسن أحوالها..ما لدينا هو تقارير واضحة تؤكد أن مختار بلمختار، القائد الذي هندس ذلك النوع من الاعتداء (في الجزائر) ليس مرتبطاً بالقاعدة في المغرب الإسلامي»، وتضيف: «لا يمكننا أن نرسم بفرشاة واسعة هذا الربط للقاعدة»، فالذين تقاتلهم فرنسا «هم المعارضون للفرنسيين، الذين حكموا المنطقة كولونيالياً لفترة طويلة، واستغلوا الفرصة الآن للتعبير عن مشاعرهم العاطفية ضد الفرنسيين والغرب؛ هم المهتمون بقضايا السيادة واستقلال منطقتهم..». ماذا كان على فرنسا أن تفعل؟ تقول وودز إنه كان يجب «النظر إلى الأسباب الجذرية للأزمات والسعي إلى علاج بواعث القلق، لاسيما لدى الناس الذين يشعرون بالتهميش، والمجتمعات التي تملك موارد هائلة في أرضها ولكنها تعاني من عزلة اقتصادية وسياسية كاملة». وتدعو وودز إلى عدم مواجهة هؤلاء الناس «بالقنابل والهجمات العسكرية»، بل «بالنظر إلى الفرص الاقتصادية لأناس لم يحظوا بصوت لأمد طويل…ما نقوم به الآن هو استنبات أعداء أكثر، استنبات متطرفين أكثر، في كل منحنى» (18 كانون الثاني/يناير 2013). في الصحافة السعودية السائدة لا تكاد تقرأ أو ترى إلا الدعاية الفرنسية، والأسطوانة المقرفة عن القاعدة والإرهاب: غياب للتفاصيل، للأوضاع المعقدة والمتشابكة للنزاع؛ افتقار إلى منظور حقيقي، مأساة تتوارى فيها صحافة الاستقصاء ويتسيّد فيها خطاب تهويشي ديماغوجي يصعب تفسيره خارج الضحالة، والعاطفة، والولاء للأجندات المعادية للإسلام. الأمثلة تترى، من حديث شبيح قناة العربية، عبد الرحمن الراشد، عن «صغار مجانين يبذلون أرواحهم فداءً لقضايا كاذبة..(في مالي التي أصبحت) أرض معركة عالمية بعد أفغانستان»، إلى رفيقه البلطجي عبد الله بجاد الذي سخر من الذين يقرؤون «المشهد هناك تحت شعارات إسلاموية بالية طالما رفعها تنظيم القاعدة و»الإرهابيون إلا ربع» الموالون له من وراء ستار». هكذا ببساطة، يصبح من يحاول قراءة المشهد بحرية، بعيداً عن العنف الرمزي وتغول الدعاية، إرهابياً. لكن الجماهير لن تفقد بوصلتها؛ ستشق طريقها بين أسطورة الإرهاب، وبين بلطجية «المتصهينين وربع»!