الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله ، وبعد : فإن من الحقائق الفطرية التي قد تغيب عن بعض الناس ، أو بعبارة أصح : تُغيب عنهم ، رغم وضوحها وظهورها : أن أنوثة المرأة موضع فتنة اجتماعية ؛ لكون النساء رأس الشهوات، وموضع أعظم الملذات؛ حيث تتصدر الفتنة بهن أعظم أنواع بلايا الرجال، وأشد مخاطر أول الزمان وآخره، وليس ذلك لقوة فيهن، ولكن لضعف طباع الرجال من جهتهن؛ حين قهرهم الله بالحاجة إلى النساء، حتى جعل الميل إليهن كالميل إلى الطعام والشراب؛ حيث بثَّ فيهن عنصر الأنوثة الذي يلعب في كيان الذكر دور الشرارة في الوقود، حتى يسْري لهب الشهوة في بدنه كحريق النار، فينصبغ العالم من حوله بطابع الشهوة، حتى تستحوذ على زمام سلوكه، فلا يبقى له رأي ولا فهم، ولا يلتفت إلى شيء حتى يقضي وطره بصورة من الصور، فالمثيرات الجنسية تعمل فيهم عمل المُشهيات للأطعمة، تدفعهم دفعاً نحو الجنس بإلحاح؛ ولهذا كثيراً ما يقع الشباب في عادة الاستمناء القبيحة، بصورة واسعة وكبيرة؛ يتخففون بها من شدة الإثارة الجنسية. إن من الحقائق الفطرية : أن المرأة الجميلة، ولاسيما الشابة الفاتنة من النساء: تحدث اضطراباً في كيان الرجل حين يلتقي بها، مهما كان مقامه، إنما يختلف الرجال في حجم ضبطهم لأنفسهم، ودرجة تحمل قلوبهم لهذا الاضطراب، وقلَّما ينجو الرجل – الطبيعي الذي يعيش فطرته – بسلام من الفتنة بالحسناء حين يمكِّن نظره منها، بل ربما كان مجرد سماعه لصوتها، أو معرفته بصفات حسنها دون رؤيتها: كافياً لتعلُّق أصحاب القلوب الضعيفة والفارغة بها، وربما وصل الحال بأحدهم إلى حدِّ العشق المُهْلك، فليس أحدٌ يموت بعشق شيء أكثر من موت الرجال في عشق النساء؛ ولهذا قدَّم الله تعالى ذكرهن على رأس الشهوات بقدر تقدمهن في قلوب الرجال، فقال سبحانه وتعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} ، ومن هنا يُلْحظ عمق الصلة بين الجمال والجنس بصورة يصعب إنكارها أو إغفالها، حيث يتوقف عنف الرغبة الجنسية واندفاعها على درجة الجمال ووفرته. ولما كان المسلك السلبي في التحفز والانتظار والهدوء هو طابع الأنثى في سلوكها الجنسي: فإنها مقابل ذلك في غاية الإيجابية تجاه إبراز مفاتنها، ومواقع الجمال منها، وصناعة التأنُّق والتزين بكل الوسائل الممكنة؛ وذلك بهدف رواجها عند الرجل، فهو مقصودها الأول والأسمى بحسن التزيُّن والتصنع، فالمرأة لا تتزين لتعزز إرادة نفسها كما يفعل الرجل حين يتزين، وإنما تتزين لتعزز إرادة الرجل فيها، فحجم الزينة الكافية عندها: ما يزكيها في عين الرجل، ويروِّج لمكانها عنده، ومن هنا تأتي الفتنة الاجتماعية حينما تنطلق إحداهن – بدافع رواجها عند الرجال- إلى التعبير بوسائل غير لفظية عن جمالها ومكامن مفاتنها، أو عن إعجابها وميل نفسها؛ حيث تقوم الحركات الجسمية، ونبرة الصوت، وطريقة الوقوف، ونوع المشْية، ونظرة العين، ورائحة الطيب: مقام كثير من الكلام، ففي الوقت الذي قد تعجز العبارات اللفظية عن حمله من المعاني المراد إيصالها: تحمله الوسائل غير اللفظية، وتُوصله بصورة قد تكون أبلغ من العبارة وأقوى، وقد أشارت دراسة أجنبية أنه في حالة توصيل رسالة ما بين الناس: تشكِّل الكلمات التي نستخدمها نسبة 7%، ونبرة الصوت 38%، ووضعية الجسم 55% ، وهذا يُظهر بجلاء مقدار الوسائل غير اللفظية المستخدمة في عملية التعبير والتواصل، وصدق الله العظيم إذ يقول مؤدِّباً وموجِّهاً نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، ونساء المؤمنين عامة في مواقفهن مع الجنس الآخر: {..... إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا* وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى ...} ، إلى أن قال جلَّ وعلا: {.... وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ...} ، وإلى أن قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} ، وقال جلَّ شأنه في موضع آخر: {.... وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ ...} . ولعل ما يغفل عنه كثير من النساء، أو يتهاونَّ فيه: إمكانية التواصل بين الجنسين بواسطة الرائحة الزكية؛ حيث تقوم الرائحة من خلال حاسة الشم بأدوار مهمة في حياتي الإنسان والحيوان الجنسيتين، فهي بجانب أنها وسيلة كثير من الحيوانات للتعرف على أفراد أجناسها، فإنها إضافة إلى ذلك وسيلتها للتجاذب بين ذكورها وإناثها للتناسل والتكاثر، وهي في عالم الإنسان لغة صامتة ، لا تقل عن الكلام وغيره من أدوات البيان؛ فالإنسان كما يتواصل باللفظ والحركة فإنه يتواصل أيضاً بالشم، ويعبِّر بالرائحة كما يعبِّر بالكلام، ويستطيع أن يصل بالرائحة إلى أغوار لا يقوى غيرها عليها، ولا يمكن الوصول إليها بغيرها من الحواس؛ ولهذا ارتبطت لغة الحب بين العشاق والمتحابين بحاسة الشم ارتباطاً في غاية القوة، وقد استغل تجار العطور في الترويج لبضائعهم هذه الخاصية الفطرية، وهذا ما يُلحظ من الدعاية على علب العطور وأسمائها، مما يشير بوضوح إلى هذه العلاقة الخاصة بين الجنسين، ولهذا تقول السيدة حفصة رضي الله عنها : ((إنما الطيب للفراش))، بمعنى أنه مجال للاستمتاع والإثارة بين الزوجين، فلا يصلح خارج ذلك إلا إذا أمنت المرأة على طيبها أنوف الرجال الأجانب. وبسبب هذه الخاصية العجيبة لدور حاسة الشم في عملية التواصل بين الجنسين: نبه النبي صلى الله عليه وسلم النساء، وحذرهن من الخروج بين الرجال الأجانب بالطيب، ولو كان ذلك لشهود الصلاة في المسجد، فقال عليه الصلاة والسلام: (( أيما امرأة أصابت بخوراً فلا تشهد معنا العشاء الآخرة ))، وقال في حق المتهاونات في ذلك: ((أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية ))، وهذا قول شديد لا يليق بالمرأة المسلمة أن تخالف فيه توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم، فتقع في مثل هذا الوصف الشنيع. إن هذه الغريزة المُسْتحكمة في طبيعة سلوك الذكور الجنسي لا بد أن تكون موضع اهتمام المرأة المسلمة ورعايتها، فإن حدود حريتها السلوكية كعنصر فتنة: تنتهي عند نظر أو سمع أو علم الأجانب من الرجال، فلا يصحُّ أن يصدر عنها أمامهم أو بمسمع منهم ما يكون سبباً في إثارتهم، وتحريك غرائزهم، من خلال: لباسها الفاضح، أو حركتها المقصودة، أو صوتها العذب، أو رائحتها العطرة، أو خلْوتها بغير محرم، بحيث تستفرغ جهدها في حمايتهم – كإخوة لها في الله- من كل مثير يضرهم ويُخرجهم عن سكون طبيعتهم، بحيث تتكلف ذلك تكلفاً، حتى ولو أدى ذلك إلى أن تحجب شخصها عن مجامع الرجال، وتكف خبر وصْفها عنهم بالكلية، فلا يصل إليهم من فتنتها شيء، كحال نساء النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهن، فإن هذا المسلك مستساغ شرعاً، ما لم يفوِّت على المرأة مصلحة أكبر .