د. عبدالرحمن بن صالح العشماوي في الحياة الدنيا مظاهر برَّاقة تستر ما يختبئ وراءها من الزَّيف والسوء والذِّلَّة والصَّغار، وفي الحياة الدنيا أضواء خادعة تظل تسرق بوهجها الأبصار، فتصرف النظر عما يختفي وراءَها من الآثام والأوساخ والأوضاع، وفي الحياة الدنيا غفلة تهيمن على قلوب كثير من أهلها فتحجب عنهم الرؤية الصحيحة للمواقف والأشخاص، وتجعلهم يتمنَّون ما عليه أهل الباطل من بريق المظاهر، غافلين عن سوء المخابر، ولأنَّ الحياة الدنيا خادعة كاذبة الأماني فإنها قادرةٌ على إغواء الغافل، وصرف العاقل عن الطريق الصحيح إلى طرق ملتوية مليئة بالحواجز والأخاديد تنتهي به إلى حفرة بعيدة الغَوْر ليس لها من قرار. هنا تختلف أنظار البشر اختلافاً كبيراً، وتصبح المسافة بين عقولهم وأفكارهم شاسعة بعيدة المدى، وهنا تبرز أهمية الإيمان بالله وكتبه ورسله، وقيمة اليقين الذي ينتج وعياً كبيراً يرى به الإنسان الأشياء على حقائقها. هناك في أعماق التاريخ نشأ ملك عظيم له بريق وهَيْلَمةٌ وهَيْلمان، وله جنودٌ جبابرةٌ وخيول وفرسان، ووراءه حصون ذات أسسٍ وأركان، يقوم عليه فرعون، ويدعمه هامان، ويتبختر فيه قارون الذي تنوء مفاتحه بالعصبة أولي القوَّة. وهناك عقول واعية، وأنظار ثاقبة ترى ذلك كله فما ترى إلى الذِّلَّة والصغار، تغطيها تلك المظاهر الكاذبة، وتقرأ في وجوه فرعون وهامان وجنودهما، وفي مراكب قارون الفاخرة الساحرة عبارات الخيبة والخسران، ولكنها عقول قليلة العدد، ضعيفة الأثر أمام تيارات الغفلة الجارفة التي جعلت أصحابها يقولون، وقد فغروا أفواههم منبهرين « يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ». فرعون ذليلٌ صاغر، يزداد ذُلاً وصغاراً عندما يقول: أنا ربكم الأعلى، وهامان ذليلٌ صاغر يزداد ذُلاً وصغاراً كلَّما وضع لبنة في بناء صرحه التَّافه المتهاوي، وقارون يزداد ذُلاً وصغاراً كلَّما نظر إلى دنانيره الذهبية البرَّاقة نظرة المتعالي المتكبِّر، وكل طاغية متجبر من بني البشر يزداد ذُلاً وصغاراً كلماً تظاهر بكبريائه الفارغ، وتشامخ بمظاهره البرَّاقة، وتعالى بما أوتي من القوة المادية على عباد الله، هذه حقيقة ثابتة لا تنتطح فيها عنزان، ولا يختلف عليها عاقلان وأعيان. إن الأذلَّ الأصغر من البشر هو الذي يبطر ويتعالى ويتكبّر، ويغرق في شهواته، وثرواته منخدعاً بما أغدق الله عليه من نعمة الابتلاء والاختبار، وإنَّ نظرة العين المؤمنة الفاحصة إلى وجه ذلك المتعالي المتكبر لتؤكد لها شقاءه المختبئ وراء نظراته المتعالية، وبؤسه المختفي وراء ابتساماته الزائفة، وذلته وصغاره المتوارية وراء عَنْجهيَّته وتعاليه واستكباره، ولهذا قال أحد الزهَّاد: ما رأيت رجلاً ذا كبرياء وخيلاء إلا وللذل والصغار في وجهه علامات بارزة لو رآها الناس لقذفوه بالحجارة، ورأوا من ذلته ما لم يكونوا يتوقعون. الكبرياء رداء الله سبحانه وتعالى فمن نازعه رداءه أورثه ذُلاً في الدنيا والآخرة، وزاده ضلالاً وغفلة وانخداعاً تظلُّ تجرُّه في دروب الضياع حتى تلقيه على أمِّ رأسه في نار جهنم – والعياذ بالله -. أما يكفي ذلك المتعالي المتكبر من الذلة والصغار ما هو فيه من غفلة عن عبادة ربه وذكره؟! أما يكفيه أنه يعيش حياته في منزلة أدنى من منزلة الحيوان فلا يصلي ولا يصوم، ولا يسبح بحمد ربه حين ينام وحين يقوم؟! كم هو ذليل صاغر ذلك الرجل الذي يقف أمام الناس مستعرضاً قوته، وصحته، وملابسه الغالية، ومراكبه الفارهة، وعباراته المنمقة، ثم هو لا يحني ظهره ساجداً راكعاً، ولا يحرك شفتيه بقوله تعالى:{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ }، ولا يقول صادقا مخلصاً، «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك». إنَّ الخضوع لله -عز وجل- هو العز والمجد والمكانة المرموقة، وإني لأنظر إلى هذا الذي يجلس في سجنه زائغ النظرات، مبهوراً تائهاً، وأتذكر صورته وهو داخل إلى حرم الله ذات يوم في مؤتمر إسلامي عقد في مكة، وهو رافع الرأس، عاتي الرقبة، على وجهه علامات استكبار بارزة رآها الناس من خلال شاشة التلفاز، فأقول: سبحان الله الذي يُذلُّ المستكبرين، وإنَّ الذُّلَّ الذي ينتظرهم يوم القيامة أشدُّ وأنكى إذا لم يتوبوا إلى الله توبة نصوحاً. يستخدِم الكذَّابُ ألفَ وسيلةٍ لكنه يبقى الأَذلَّ الأصغر