« ولا تنسوني من دعاكم » بهذه الكلمات اختتم المليك كلمته القصيرة ، المفيدة ، في يوم عيد المسلمين الأسبوعي ، فكان بحق عيدا ، بفرحته الكبيرة ، وبسؤاله العفوي هذا ، الذي أبكى ، وشرح ما تعجز كلمات أن تعبر عنه ، ولا تستطيع أن تصيغه القوافي ، لأنها جاءت هكذا ، دون ترتيب ، وخارج النص ، وكثيرا ما يخرج الممثلون المسرحيون عن النص ، ليضحكوا الجماهير ، فكان خروج مليكنا عن النص ، صدقا ، وإخلاصا . ولهذا لامست كلماته شغاف القلوب . قرأت في هذه الجملة القصيرة ، في ختام كلمة المليك ، وهو ينظر إلى شعبه عبر الكاميرا ، رأيت فيها ردا كبيرا ، وصريحا ، وممعنا في الصدق لكل المتهمين لهذه الدولة وقيادتها ، بالانفتاح المخالف للشرع ، والتطور المصادم للدين ، فكانت الكلمات تحمل الإقرار بالعبودية لله الواحد القهار ، متمثلا قول القائل : ومما زادني شرفا وتيها وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا ورأيت فيها التواضع من ملك لشعبه ، فهو ينهي كلماته بأنه يستمد العزم والعون والإصرار – بعد الله تعالى – منهم ، ويسألهم أن لا ينسوه من الدعاء . فهو ملك ، ولكنه غير مستكبر على الخالق العظيم ، ومقر بحاجته إليه ، وفقره بين يديه ، وهذا هو ديدن العظماء ، حين يرون التفاف الشعوب حولهم ، ويرون النصر حليفهم ، كما فعل بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم - وهو يدخل مكة فاتحا منتصرا ، عزيزا قويا ، فيذل لله ، ويحني رأسه لمولاه ، وهو فوق ناقته ، خاشعا متذللا ، مهتديا بسنة من سبقه من الأنبياء الذين ملكوا الدنيا ، لا مجرد جزء منها ، أو قطعة صغيرة من أرضها ، كما فعل سليمان عليه السلام ، وهو يرى عرش بلقيس بين يديه في طرفة عين ، فيقول « هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر » . وكما فعل ذو القرنين ، والقوة العظمى تملكه رقاب الناس فيعدل فيها ، ثم يسأله الضعفاء بنيان سد بينهم وبين المفسدين من يأجوج ومأجوج ، فيقول « ما مكني فيه ربي خير » أي مما ظننتم أنكم ستدفعونه لي جعلا مقابل خدمتي لكم . دنوت تواضعاً وبعدتَ قدراً فشأناك انخفاض وارتفاعُ كذاك الشمسُ تبعدُ أن تسامى ويدنو الضوء منها والشعاعُ فلا يتكبر إلا ضعاف النفوس ، والمنتفخون كذبا وزورا ، كما كان فرعون يتوهم بجريان الأنهار ، وملك مصر أنه هو الرب الأعلى ! وكما انخدع قارون بكثرة ماله ، فظن أنه تميز عن قومه بخاصية منحته هذه الكنوز ، وكما اغتر هامان بوزارته وجنده فظن أنه لا يرجع إلى مولاه ، ولا يحتاج إلى نصره وتوفيقه . فكان عبدالله بن عبدالعزيز – حفظه الله – قدوة للملوك والقادة جميعا ، خاصة في مثل وقتنا هذا ، قدوة لهم يذكرهم أنهم أقوياء برعيتهم ، وقومهم ، وأنهم مسئولون عن هذه الرعية التي استرعاهم الله إياها ، وأنه وإن ملك ، وإن علا ، فعلوه ليس علو المستكبرين ، ولا علو المفسدين ، ولا المستبدين ، بل هو علو عباد الرحمن في الأرض ، يمشون عليها هونا . فهم يشعرون بالعلو في أنفسهم لكنهم لا يستكبرون ، تماما كما وصف الله تعالى المؤمنين به في قوله (يحبهم ويحبونه ، أذلة على المؤمنين ، أعزة على الكافرين ) والذلة هنا لا يراد بها الخضوع والاستعباد ، بل هي ذلة التواضع والرحمة ، والرفق ، ذلة الحنان ، ذلة العون والعطف ، ذلة الإحساس بمشاعرهم ، والسهر على راحتهم ، ذلة ترفع صاحبها إلى قمة الهرم ، لأنها ذلة منبثقة من الذل لله ، والإقرار بعبودية الإنسان له ، مهما علا شأنه ، فهو محتاج إليه ينصره ، ويؤيده ، ويعينه ، ويلبسه لباس العافية ، ويمن عليه بالتوفيق والسداد . وفي وصف عباد الرحمن قال ( يمشون على الأرض هونا ) فلما تواضعوا لله رفعهم ، وأعلى منزلتهم ، فحملتهم الرقاب ، والهامات ، وقال في الإسراء ولقمان : « ولا تمش في الأرض مرحا » فالمتكبر مهما علا فهو في الأرض يتجلجل فيها ذليلا لا قيمة له في أعين الناس ، ولا في حياتهم . فكان عبدالله بن عبدالعزيز حقا ملكا إسلاميا ، رحم المؤمنين ورأف بهم ، فكان برعيته رءوفا رحيما . يعز عليه ما يعنتهم ، ويحرص على ما يفيدهم ويرفع الأثقال عن كواهلهم . وكان بحق مقتديا بالملوك الصالحين ، والأقوياء الناصحين ، فحقق مقولة عمر رضي الله عنه « لين من غير ضعف ، وشدة من غير عنف » . ولا أقول إلا إني لأرجو أن يكون مليكنا ممن قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم « خيار أئمتكم الذين تدعون لهم ويدعون لكم ، وتصلون عليهم ويصلون عليكم » . والله أسأل أن يجعله ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، ولعله أن يجمع بين أكثر صفات السبعة ، فهو إن شاء الله إمام عادل ، ولا أشك أنه ممن ينفق بخفية حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ، ولعل قلبه معلق بالمساجد ، ولعله ممن يذكر الله خاليا فتفيض عيناه ، وأسأل الله أن يجعلني وإياه ممن يستظلون تحت ظل العرش لأنهم من المتحابين فيه . فمن ذا الذي يلومنا اليوم إذا افتخرنا بحبهم ، والولاء لهم ، والتفاني في طاعتهم ، ونحن نرى هذه الروح المؤمنة ، يحفزها الإيمان إلى هذه القرارات والتوجيهات الذي أبرزت لمن كان يتعامى مكانة الإسلام في حياة قادتنا ، الذين جعلوا القرآن إماما وهاديا ، ودستورا ، ونبراسا ، يجاهرون بالانتساب إليه ، ويفخرون بتحكيمه ، ويبذلون الغالي والنفيس لنشره ، وتحفيظه ، والدعوة إليه ، ليضيء نوره ساطعا يبدد ديجور الظلمة في أطراف الدنيا. كما تظهر هذه الروح المؤمنة في ما يتمتع به العلماء في هذه البلاد حرسها الله من مكانة مرموقة سامقة ، واحترام وتوقير ، إذ إنهم يمثلون جانبا من أهم الجوانب التي قامت عليها مملكتنا ، وهذا الحب الصادق من مليكنا نتيجة طبيعية للمشاعر الدينية التي ينطوي عليها فؤاده المصقول بالإيمان ، فالعلماء هنا قادة ، على أفكارهم وآرائهم ، وعلومهم قامت هذه البلاد الطيبة ؛ ليكون هذا أحد أسباب البقاء والدوام لهذا الحكم الرشيد. هنا تنعم البلاد بكل مظاهر التدين وإقامة شعائر الإسلام ، وبناء المساجد ، ورصد الأموال والميزانيات الضخمة لبنائها وتوسيعها والقيام عليها وصيانتها ، حتى لا تبقى ذرة غبار بأفنيتها. ويثبت قائدنا الأغر رؤيته لمنهاج النبوة في سياسته ، فيدعم جهاز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويدعم دعوة الجاليات ، وجمعيات تحفيظ القرآن ، وينشىء مجمعا فقهيا سعوديا ، ليكون منطلقا لفقه المستجدات ، وحوار الفقهاء ونقاشهم ، ليصدر الرأي عن بحث ودراسة . ولقد تركت الحديث عن الترقيات والرواتب وما سواها ، لا لأني لا أهتم بها ، بل إني موقن أن الدين لا يقوم إلا بالدنيا ، ولا يمكن لمشغول في البحث عن لقمة العيش ، أو البحث عن مكان آمن أن يؤدي شعيرة ، مرتاح البال ، خالي الذهن ، فكل الأوامر التي حملت بشائر دنيوية ، يصب نهرها في بحر الدين ، وحمايته ، إذ متى اطمأن الناس إلى معاشهم ، وأمنوا في دورهم ، تمكنوا من شكر المنعم وأدوا صلاتهم خاشعين ، وانطلقوا للحج آمين البيت الحرام ، يبتغون فضلا من الله ورضوانا . قد حازوا الدنيا بحذافيرها . لهذا كانت الأوامر متنوعة ، شاملة ، مدنية ، وعسكرية ، اقتصادية ، واجتماعية ، ومعاشية ، ودينية ، وفقهية ، وتعليمية ، فأقول لكل العالم ، عربيه وأعجميه : أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع !!!!