أتَجَوَّلُ كغيري بين محطاتِ الصَحافةِ المقروءةِ يومياً، مُحاولاً اسْتِقْرَاء شؤون مجتمعي، والاطلاع على الأحداثِ، وما يحيكهُ الساسة، وما تنزفهُ الأقلام، التي تُبلور بشكلٍ أو بآخر مَلامِحَ وجه الوطن. وحقيقة أنَّ عناوين المقالات تعني لي الكثير، خصوصاً عندما أزاوجها باسمِ الكَاتبِ، لأخمِن قبل القراءةِ نوع الذُرية المُرتقبة!. وعندما يرتكز المقال على معطياتِ شخصيةٍ عامة، فإنه يأتي على حال من حالين، فإما أن يكون الكَاتب مادحاً لشمائله وأعماله، وإما أن يقوم بنقده، أو ذم أفعاله بشكلٍ أو بآخر. وفي حالاتِ النقدِ والذمِ، فالأمر يحدثُ بأرْيَحِيَّةٍ وموضوعية، وبمقارعةِ للحجةِ بالحجةِ، والرد يكون مكفولاً لمن يتم انتقاده، ليقوم بالتوضيحِ، وإظهار وجهة نظره الغائبة، وربما يستدعي ذلك الخروج عن إطارِ الصحفِ، لإطارات قانونية. وقد يكون في هذا الحراكِ إثراء للمجتمعِ، من عدةِ نواحٍ، إضافة إلى كونِ الحدثِ يردع بقية المسؤولين، فلا يكررون ما وقعَ فيه المُنتَقَد، وهذا يُعَدُ غاية بحدِ ذاتهِ. ولكن، الذي يحدُث في مقالاتِ المَدِيحِ والثناء، أن يصمتَ الممدُوح، وهو في قِمة «الانشكاح»، لأنه ببساطةٍ لن يجدَ أفضل من هذا البوقِ، الذي يَنذُر حِسهُ وعقلهُ وبيانهُ، مبدعاً في تضخيمِ البديهِيَات، وماحياً للأخطاءِ، ومُهوناً للكوارثِ، ومُعلياً لسمعةِ الممدُوحِ إلى ما يفوق هام سُحب الوصفِ. والممدُوح قد يكون مستحقاً للثناءِ، فالخيرِ بيننا يظل موجوداً، ولكن المبالغة، والمغالطات الواضحة السَمْجَة، في أغلب المقالاتِ المدحية، تدل على إصابةِ كتّابِها بأعراضِ حُمَّى المَدِيح، المستعصيةِ على المعالجةِ، مما يجعلنا في ضَنَّكٍ، نراقب ظهور بقع وخطوط حمراء حول أقلامهم، ونوازعهم، وأهدافهم! ومن عجائب صحافتنا أن تقرأ مديحاً لمسؤولٍ معين، وأن ترى وعلى نفسِ الصفحةِ خبراً ينسفُ أسس ذلك المَدِيح، بواقعةِ فسادٍ، أو صورة تقصير حدث في منطقةِ مسؤوليتهِ، مما يدل على أن المديح ليسَ إلا جعجعة في مطحنةِ هاجسِ الكاتبِ، تُكرِهُنا في المسؤولِ، وتزعزع معاني النزاهة، وتُصيبنا بقرفٍ شديدٍ من مجردِ تلمس جبهة حروف الكاتبِ، نظراً لهذيانهِ المحمومِ، وضرورة عزله صحياً، حتى يستوفي شروط الوقاية من فيروساتِ التزلفِ والكَذِب. المادحون من الشعراءِ تقلصت مناطق وبائهم وأضرارهم بحدودِ زوايا القصور والاحتفالات، ولكن كُتاب المَدِيح ينتشرون بسرعةِ وهجِ صحُفهم، ويتسربون لكل فجٍ عميقِ، مما يُنذر بتفشي العدوى، وطغيانها على مداركِ قراءٍ وثقوا بهم، وجعلوهم لِسانهُم الحاكي. طلبناكم بالله يا كُتابنا، خففوا من جرعاتِ المَدِيح، لأنه ما دخل شيئاً إلا شانه. ورسُول الهدى -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَدَّاحِينَ فَاحْثُوا في وجوههم التراب». رواه مُسلم. ولو أن كثيرا من العارفين بالمقصودِ يُرجِحون أن الحثي لا يكون للوجهِ مباشرة، ولكنه يوجه ناحية جسد المادح. ونحن من خلالِ الصحف لن نتمكن من الحثي، وسنستعيضُ عن ذلك بتبيان أعراض الحُمَّى، ومضاعفاتها، وطُرق الوقاية منها، والنصح بالتداوي، ولو بالكي، فلعلهُم مِنها يَبْرَأُونَ.