الصندوق الأسود (مدرسة حنين) لكل غايته من الكتابة وغايتي هنا أن يعرف أبناءنا شيئاً من الماضي القريب على افتراض أنهم يقرؤن .... وقد كان العنوان صندوق طريب الأسود وتم تغييره تجنبا لسوء الفهم ، علما بأن الصندوق المظلوم يحتوي على أشياء جميلة وغير ذلك ،، والأسود ملك الألوان كما يقال ولكن العرب لديهم حساسية مفرطة من السواد منذ عصبنا الرؤوس بالعقال قبل قرون. ولايهم إن كان الصندوق برتقالي أم اسود،، أعود إلى حُنين فأقول إن الأسابيع الأولى من الدراسة في مدرسة حنين الابتدائية بطريب لايمكن نسيانها أبدا لمن حالفه الحظ آنذاك واتجه إلى المدرسة لطلب العلم حتى وان كان مجبرا..... المبنى الطيني القديم لمدرسة حنين الابتدائية بطريب ففي فصل شتاء شديد البرودة وفي صباح يوم أجهل اسمه وتاريخه ساقونا كالقطيع إلى الصف الأول بمدرسة حنين الابتدائية بطريب في مبناها الطيني القديم والجميل حقاً آنذاك ، حشرونا في شمال المبنى وفي اكبر الغرف مساحة وكنا نحو العشرين طالبا أو أكثر .. وليس بيننا معرفة كاملة فقد جئنا من عدة قرى ومن البادية. غادر من حضر من الآباء بسرعة البرق للاهتمام بحيواناتهم وإخراجها من حظائرها بعد أن أخذنا نحن مكانها كتلاميذ ولكن في حظيرة أخرى اشد قسوة وعذابا!! أغلبنا بلا أحذية وبلا ملابس داخلية وثيابنا رثة خشنة واغلبها غير نظيفة ، وبعضنا مصاب بالرمد وتذرف عيونه صديداً وآية الله الصغرى الذباب بدوره ينقل العدوى إلى البقية من الأصحاء!! أجلسونا على حصيرين من القصب وبساط (برنوص) ذو خطوطا حمراء وزرقاء وبعضنا لم يجد مكانا فجلس على ارض الغرفة الإسمنتية شديدة البرودة !! الجميع يرتجف من شدة الخوف ونسينا ألم البرد وعذابه وماسببه لنا من مغص شديد واستفراغ وإسهال !!. أغلقوا باب المعتقل (الفصل) وفتحوا إحدى النافذتين للإضاءة والتنفس ، وحيل بيننا وبين الحرية ولم يعد لنا أي إرادة حتى مجرد النطق بكلمة واحدة أو الالتفات لأي جهة ... كل شيء ممنوع ..... قيام جلوس ...قيام جلوس ... مرات ومرات ... حُزن وخوف يخيم علينا وصدمات نفسية تتوالى ... توقفت ذاكرتنا وغابت صور الأم والأب والأخوان الصغار والمزارع وجمالها وحل مكانها ذهول ورعب يمارسه رجال غرباء علينا في كل شيء... شعورهم طويلة مبعثرة وسوالفهم كذلك تمتد إلى منتصف وجوههم ، بنطلوناتهم (سراويلهم) ضيقة جدا وقمصانهم مفتوحة الصدر ، نظراتهم حادة غاضبة ووجوههم عابسة ، بين أصابعهم عند الباب شيئا يدخنونه لم نره من قبل !!، أياديهم تحمل عُصي الرمان والجريد الأخضر وبجانب السبورة الخشبية الخضراء عُلقت سياط أخرى وجميعها أُحضرت للضرب والتعذيب!! نهار طويل ومستقبل مجهول وتهديدات متوالية بالويل والثبور وعظائم الأمور - وبعض الكلام لانفهمه - وعند أدنى حركة من أي طالب يبدأ المسلسل ويا قلب لا تحزن: ركل بالأرجل وصفع رهيب للوجوه وشد للآذان حتى ينسلخ جلدها من الخلف، سباب وشتائم ولعن واستهزاء. الخروج ممنوع لشرب الماء من الحنفيات المكشوفة في فناء المدرسة (تعطيش متعمد)، والأكل ليس له وجود على الإطلاق ، وهناك (3) حمامات خارجية جنوب المدرسة ممنوع علينا استخدامها رغم عدم صلاحيتها باستثناء أحدها، وفي غير الفسحة الطويلة التي يتحكمون هم في توقيتها ممنوع أن نخرج لقضاء الحاجة في الفضاء المكشوف ، إلى درجة أن كثيرا من الطلاب لم يتحملوا ألم المثانة فتبولوا على أنفسهم وهم جالسين في وضع نفسي مبكي ورهيب،،، ولا أحد يستطيع من شدة الخوف أن يتزحزح لو ذراعاً واحدا في أي اتجاه لتحاشي النجاسة!! والنتيجة تسرب الماء من خلال أعواد الحصير أو البساط ليصل إلى ملابس وسيقان الآخرين ويبقى ذلك علامة في الثياب لساعات يشاهدها جميع من في المدرسة قبل جفافها!!،،،،، هذا يهون لكن تصوروا نتيجة ذلك ؟ ينقض المعلم أو المعلمين (يبدو أنهم من الثوار اليساريين العرب) عفا الله عنهم على طلاب ضعفاء مبتدئين مساكين فيُنكلون بهم ضربا بالعصي وبالركل واللطم ثم تعليق الأرجل بين شخصين وهي موثقة بقطعة حبل أو شماغ (الفلكه) لتنفيذ اشد أنواع التعذيب في الأقدام وأسفل الظهر بالسياط المؤلمة وحينها لاتسأل عن المنظر المشين حيث تنكشف العورات وتتعالى الصيحات – نفداك ياستاد ترني في وجهك ياستاد – ولكن هيهات أن يثير ذلك الشفقة .. ويزداد اليأس فتتوالى الاستغاثات بنداء الأمهات المسكينات ولكن لا مجيب!! تصوروا أن كل هذه المشاهد الحزينة والمهينة ونحن لم نتعلم بعد كتابة سطرا واحداً!!! فهل ماتت الضمائر يوماً ما؟ سامحهم الله. بني الصغير صورت لك ما رأيته بعيني فقارن وأعتبر فان لم تصدق فسأبحث عن شهود إحياء يرزقون. وللحديث بقية. عبدالله العابسي [email protected]