شعر الغزل عند الفقهاء لست بصدد الكتابة عن الشعر بقياساته المتباعدة ولا بمضامينه الواسعة ولا عن غرض من أغراضه أو خصيصة من خصائصه كما يوحى به العنوان ما قصدت هو تناول العلاقة الرابطة بين بعض البشر من جانب وبين الشعر من جانب آخر وكيفية تعاملهم معه وتعاطيهم له على الأقل من وجهة نظر الآخرين0 وأخص فئة الفقهاء والعلماء حيث يبدو شعرهم صادماً ومناقضاً لما في أذهان العامة وتفكير البسطاء عن الصورة النمطية السائدة عن الفقيه والعالم والتي تكرس دائماً صورة الورع والفضيلة ولكون الناس ينظرون لتلك العلاقة مابين الفقهاء وشعر الغزل من عينين مختلفتين ترى الأولى انه لا يليق بالفقهاء وبالشيوخ والقضاة أن يقرظوا الشعر ناهيك عن أن يتكلموا في الحب، أو يعرّضوا للغزل فهم أسمى و أجل من ذلك وتبعاً له كان مقامهم أعلى من مقال الشعراء والأخرى ترى أن شعر الفقهاء لا يرقى لمستوى الشعر بل هو نظم لا قلب له ولا نبض فيه وعادة ما يخلو من ابتكارات الشعر وتراكيبه وصوره المبدعة وبالتالي كان مقال الشعر أعلى من مقام الفقهاء ومع تباين وجهات النظر فلا الأولى أنصفت الفقهاء 0 بقدر ما جردتهم من المشاعر التي يملكونها وحرمتهم حرية التعبير عنها وحجبت عنهم النظر والتأمل في منابت الجمال ومجاهل الخيال الباعثة لتلك المشاعر 0 ولا الثانية أنصفت الشعر بقدر ما غيبت هذا النوع من الشعر الراقي الذي يعد وجه وضَاء من أوجه الثقافة العربية الاسلاميه 0 التي قدر لها ولنا أن لا نستوعب أبعادها الإنسانية السامية وأن لا ندرك مساحة التسامح في أفقها الواسع0 وعليه فإن شعر الغزل عند الفقهاء لا ينطوى تحت أىّ من الآراء السابقة وأن هذا النوع من الشعر الفريد الذي يتميز بكونه شعرا ًخالصاً لا خطاباً أيديولوجياً فظا يرتفع به صوت الحب ولا ُينتهك به ستر الفضيلة و تتوحد فيه المرأة والإلهام والقلب والروح في صوره وجدانية مضاءة بالعفاف لا تضارب فيها بين أن يكون الشاعر فقيهاً أو عاشقاً أو متغزلاً ولو لم يكن كذلك لما أصغى أصدق الخلق محمد صلى الله عليه وسلم إلى كعب بن زهير وهو يهدر في قصيدته التي يتغزل فيها بسعاد وما سعاد غداة البين إذ برزت * * * كأنها منهل بالراح معلول هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة * * * لا يشتكى قصر منها ولا طول ولما أستمع أبن عباس إلى إمام الغزلين عمر بن أبي ربيعة، وهو يقول اليوم عندك دلها وحديثها * * * وغدا لغيرك كفها والمعصم وعند تتبع بعضا ًمن نماذج الفقهاء في شعر الغزل نقف إجلالا لكثير من إبداع تلك النصوص المتدفقة بالبوح النقي وبالوجد القاتل وبالعاطفة الصائمة عن الفحش والتبذل والسقوط تخيل هذه الأبيات التي بلغ من إعجاب الناس بها أن أبا السائب المخزومي لما سمعها حلف أنه لا يأكل بها طعاما إلى الليل وهى لعروة ابن أذينه شيخ الإمام مالك (أكثرها 0 وأقلها ) : إن التي زعمت فؤادك ملها * * * خلقت هواك كما خلقت هوى لها فبك الذي زعمت بها وكلاكما * * * يبدي لصاحبه الصبابة كلها ويبيت بين جوانحي حبٌّ لها * * * لو كان تحت فراشها لأقلها ولعمرها لو كان حبك فوقها * * * يوماً وقد ضُحيت إذن لأظلها وإذا وجدت لها وساوس سلوة * * * شفع الفؤاد إلى الضمير فسلها بيضاء باكرها النعيم فصاغها * * * بلباقة فأدقها وأجلها !منعت تحيتها فقلت لصاحبي * * * ما كان أكثرها لنا وأقلها فدنا فقال ، لعلها معذورة * * * من أجل ُرقبتها، فقلت : لعلها ومن شعر الغزل اللطيف ما قاله ابن أبي مُلْيكة من فقهاء التابعين وقضاة المسلمين . كان يلي قضاء الطائف لابن الزبير لو لم تكن حوَّاء ! مَنْ عاشَ في الدنْيا بغير حبيبِ فحياتُه فيها حياةُ غريبِ ما تنظرُ العينانِ أحسنَ منظراً مِنْ طالبٍ إلفاً ... ومِنْ مَطلوبِ ما كان في حُورِ الجنان لآدمٍ لو لم تكنْ حواءُّ ... مِنْ مرغوبِ قد كَانَ في الفَردوسِ يشكو وَحشةً فيها ... ولم يأنسْ بغير حبيبِ وللقاضي عبد الوهاب المالكي في الغزل ما لم يسبقه إليه أحد قصيدة 0القبلة 0 عند تأملها تجدك أمام مبحث فقهي خالص ونائمةٍ ... قبلتُّها ... فتنبهت فقالتْ : تعالوا! ... واطلبوا اللِصَّ بالحدِ فقلت لها : أني –فدُيتكِ! – غاصب وما حكموا في غاصبٍ بسوى الرّدِ خذيها ! ... وكُفي عن أثيمٍ ظلامه وإنْ أنتِ لم ترضيْ ... فألفاً على العَّدِ فقالت : قِصاصٌ يشهُد العقل أنَّه على كبَدِ الجاني ... ألذَُ مِن الشُهدِ فباتتْ يميني ... وهي هميانُ خصرِها وباتت يساري وهيَ واسِطةُ العقَدِ فقالتْ : ألمْ أخُبْر بأنك زاهدٌ ؟! فقلت : بلى! ما زِلتُ أزهدُ في الزهدِ ! وأنظر ما قال ابن حزم متى جاء تحريم الهوى عن محمد وهو الإمام الشهير . قال صاعد الأندلسي : كان أبو محمد (ابن حزم) أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام . يَلومَ رِجالَّ فيكِ ... لم يعرفوا الهوىَ وسيانِ عندي فيك لاحٍ ... وساكتُ يقولون : جانبت التصاونَ جَملةً وأنت عليمٌ بالشريعة قانتُ فقلت لهم : هذا الرياء بعينهِ صراحاً ! ... وزيٌّ للمرائين ماقت متى جاء تحريمُ الهوى عن محمد ؟! وهل منعه في محكم الذكر ثابت ؟! إذا لم أواقع محرَماً أتقي به مجيئي يوم البعث ... والوجه ثابتُ فلست أبالي في الهوى قولَ لائمٍ سواءٌ لَعْمري جاهرٌ ومُخافتُ وهل يُلزمُ الإنسان إلا اختيارُه وهل بخبايا اللفظ يؤخذ ساكتُ ؟ ويقول متغزلاً في قصيدة سجود الأنوار وجهٌ تخر له الأنوار ساجدةٌ والوجه تمٌّ .. فلم ينقص ... ولم يزدِ دفءٌ وشمس الضحى بالجيد نازلةٌ وبارد ناعم ... والشمس في الأسَدِ 0 هذه النماذج جرت على ألسنة فقهاء وقضاة وشيوخ وهم بذات الوقت شعراء وبشر 0 قال الشيخ على الطنطاوى رحمه الله حول ما أريد الختام به لم تُقل ألسنة علمائنا ولم تكل أقلامهم ولم تخفت أصواتهم إلا حين أضاعوا ملكة البيان وزهدوا في الأدب وحقروا الشعر0 وما أقدرهم على العودة له وأحوجنا إليه0 محمد على المساعد [email protected]