مئات وربما آلاف المصريين الفقراء يبيعون أعضاء الكلى والكبد كل عام من أجل تسديد ديونهم وشراء الطعام، مما يجعل مصر ثالثة في تجارة الأعضاء. «الغاية تبرر الوسيلة»، ومع معاناة تمتد طوال ال24 ساعة بسبب فشل عضو حيوي، ينتشر ميكافيلليون يبحثون عن عضو بديل أيا كان مصدر ه أو ثمنه. ومع النقص الكبير في أعداد المتبرعين، ظهرت عصابات منظ ّ مة تعمل في مجال بيع الأعضاء البشرية، بما يشابه صيغة البيع في «الحراج». هذه العصابات تستغل الحاجة الملحة للمرضى من جهة، والفقراء من جهة أخرى لتقدم أعضاء بشرية جاهزة للنقل مغم ّ سة بالجريمة. تجارة لا إنسانية أصبحت تشك ّ ل ما يشبه الظاهرة هذه الأيام في عدة دول فقيرة، ينظمها أطباء ومنتفعون لا يراعون ضميرا ولا أخلاقا.. والضحية هو.. الإنسان. يبحث أبو مهند منذ أربع سنوات عن كلية لابنه «16 عاما»، المصاب بفشل كلوي ، فيما يراوح في قائمة الانتظار بالمستشفى التخصصي والمركز السعودي لزراعة الكلى منذ ذلك الوقت، إذ استبد به اليأس بعد أن أعيته الحيلة وأتعبه البحث عن متبرع داخل السعودية وخارجها. أبو مهند قدم من مصر، أخيرا، في آخر محاولاته للعثور على بائع، إذ جاءه الفرج هناك لينهي عذاب ومعاناة ابنه التي امتدت لسنوات: «أصابني اليأس من طول انتظار ابني في قوائم المستشفى فترة امتدت أربع سنوات كانوا يتعذرون خلالها بعدم جاهزيته. والآن أصبح جاهزا منذ عام للزراعة ولم يضف للقائمة رغم ذلك». يضيف: « بالأمس ذهبت لاستطلاع الأمر لكنه لم يضف أيضا، ففكرت في الزراعة بالخارج بعد أن علمت بأمر أحد المستشفيات من خلال سعوديين أجريت لهم جراحات ناجحة سابقا، وكان سعر الكلية وقتئذ أقل من الآن؛ حيث كانت تباع ب65 ألف دولار، ثم أصبحت ب75 ألفا، والآن تكلف 85 ألف دولار، لأن المستشفى، حسب ما علمت، سوف يغلق جراء تعرضه لضغوط». أبو مهند عاد من مصر منذ ثلاثة أيام. وهناك أبلغته إدارة المستشفى أن شخصا أردنيا، من أصل فلسطيني، سيتبرع بكليته لابن ه مهند: «إن شاء الله سوف نزرع الكلية لابن ي خلال هذا الأسبوع بعد أن استوفينا التحاليل وتمت مطابقة الأنسجة وفصيلة الدم، دون أن تكون هناك أدنى وساطة في هذا الموضوع». أسعار البيع حالة مهند أول الطريق نحو اكتشاف واقع زراعة الأعضاء التي أنتجت سوقا سوداء، غير أخلاقية، تعمل في تجارة بيع «قطع الغيار» البشرية التي تستخرج من فقراء لصالح مستفيدين أثرياء في جميع أنحاء العالم. وفي المنطقة العربية لقيت هذه التجارة رواجا واسعا في السنوات الأخيرة حتى إن مصر احتلت المرتبة الثالثة عالميا في هذه التجارة. ووفقا للدكتور عبدالواحد المشيخص، المهتم بقضايا زراعة الأعضاء والباحث في مجال زراعة الكبد والأمعاء الدقيقة فإن أكثر الأعضاء التي يحتاج إليها المرضى : «هي الكلى والكبد والبنكرياس، ويعتبر التبرع هو الطريق ة الوحيدة للحصول على هذه الأعضاء، لكن هناك سبلا أخرى للاستعاضة مؤقتا عنها مثل جهاز الديلزة أو الغسيل الصناعي الذي يستخدم لتنقية الدم إلى حين زراعة الكلى». ويضيف: «يتراوح سعر الكلية في سوق تجارة الأعضاء بين الألف والخمسة آلاف دولار فقط، بينما تحصل مكاتب المتاجرة بالأعضاء على 100 إلى 200 ألف دولار مقابل أتعابها. وغني عن القول أن في هذا إجحافا كبيرا في حق المتبرع». يتم تحديد صلاحية العضو المتبرع به من المتبرع إلى المتبرع إلي ه بتطابق فصيلة الدم وتطابق الأنسجة في حالة الكلى وفي حالة التبرع بالكبد تطابق فصيلة الدم فقط، بحسب المشيخص الذي يصف المتاجرة بالأعضاء بالأمر غير القانوني: «المتاجرة بالأعضاء تصرّف غير قانوني وغير مصرح به. وهي ظاهرة تنتشر في أمريكا الجنوبي ة وبعض الدول الآسيوية مثل إيران والصين والهند وبعض الدول العربية كالعراق ومصر». في الصين يتم شراء الأعضاء من المساجين المحكوم عليهم بالإعدام. وقد أدى شح الأعضاء المتبرع بها إلى انتشار تجارة بيع الأعضاء. وكما هي الحال في أية تجارة قد يتعرض المتبرع إليه للغش كما حصل لمرضى خليجيين تمت لهم زراعة أعضاء في الصين أو الهند من مرضى مصابين بمرض الأيدز . وبحسب المشيخص: «تتم عمليات البيع عبر مكاتب سرية متخصص ة في هذا المجال. وتجارة الأعضاء غير مقبولة قانونيا، إذ لا بد أن يكون التبرع عن طيب خاطر ودون مقابل. وهناك طريقتان للتبرع بالأعضاء هي التبرع من متوفى دماغيا أو من إنسان حي، وهذا الأخير يكون بين أقرب المقربين كأن تتبرع أم لابنها بجزء من كبدها أو بكلية من كليتها». ويضيف شارحا آلية عمليات البيع : «يتم الاتفاق عادة في الخارج، أي في الدولة التي تتم فيها المتاجرة عبر وسطاء، لكن هناك مشكلات ومضاعفات طبية كثيرة قد تنتج عن الزراعة التي تتم عبر تجارة الأعضاء؛ إذ إن العملية الجراحية غالبا ما تجرى في ظروف غير صالحة ومن قبل جراحين غير أكفاء. كما أن المتبرع الذي باع عضوا من أعضائه ربما لا يكون بصحة جيد ة، وقد يكون مصابا ببعض الأمراض المعدية مثل مرض الأيدز». جريمة إنسانية ويبدو أن الكلى هي الأکثر انتشارا بين الأعضاء التي يتم بيعها وزراعتها للمحتاجين وفقا للدكتور عباس العباد، الذي يؤكد تحريم القوانين الدولية لهذا النوع من الاتجار: «لكن للأسف لا تزال هناك دول عربية يجري فيها هذا النوع من المتاجرة». ووفقا للعباد ، فقد أشار مكتب الأممالمتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أخيرا إلى أن: «مئات وربما آلاف المصريين الفقراء يبيعون أعضاء الكلى والكبد كل عام من أجل تسديد ديونهم وشراء الطعام، مما يجعل مصر مركزا لتجارة الأعضاء، غير أنه لا تتوافر إحصاءات حول مبيعات الأعضاء وزراعتها ف ي مصر، وذلك لأنها تتم سرا، وهناك مئات من عمليات زراعة الأعضاء «غير المرخصة» يتم إجراؤها كل عام في هذا البلد العربي». رئيس نقابة الأطباء المصرية حمدي السيد قال إن المريض الخليجي يدفع: «80 ألف دولار في الحالة يستفيد منها الأطباء والمتبرع والسماسرة ». يؤكد السيد أن وزارة الصحة المصرية كانت: «ضبطت مصريا بالجرم المشهود كان ينوي بيع كلية لخليجي لقاء 3500 دولار، وكان يفترض أن يحصل المستشفى الذي أجرى العملية في القاهرة على مبلغ مماثل». في قصة مشابهة ضبطت سلطات مطار القاهرة أخيرا طبيب عيون شهيرا أثناء محاولته تهريب ثلاث قرنيات بشرية داخل علبة حلوى لدى سفره إلى السعودية. وكانت معلومات لأمن المطار تفيد قيام طبيب بمحاولة تهريب قرنيات مصرية إلى السعودية وبيعها بأسعار خيالية. وبعد تشديد الرقابة على الرحلات المتجهة إلى السعودي ة وأثناء إنهاء إجراءات سفر ركاب رحلة مصر للطيران إل ى المدينةالمنورة تبين وجود الطبيب وسط ركابها، وبتفتيش حقائبه عثر بداخل ست حقائب على 12 علبة حلوى وبفتحها عثر على القرنيات داخل إحداها. اعترف الطبيب بأنه اشترى القرنيات وكان ينوي زراعتها في السعودية لمرضى عرب، وتم تحرير محضر للطبيب وإحالته للنيابة. إطار شرعي بحسب المحامي والمحكم المعتمد من قبل وزارة العدل السعودية فيصل الجبير جاءت كافة التشريعات السماوية والدولية بتحريم المتاجرة بالأعضاء البشرية: «فجسد الإنسان برمت ه ليس مجالا للبيع والشراء، فالمسلم محترم حيا أو ميتا ، وقد جاء في الحديث «كسر عظم ميت ككسره حيا»، وبذلك فمن باب أولى عدم جواز المتاجرة بأعضائه مثل قلبه أو كليته أو كبده أو أي عضو آخر من الأعضاء التي تكون محلا للنقل». ويضيف: «حرمت المجامع الفقهية في الدول الإسلامية ومن بينها السعودية المتاجرة بالأعضاء البشرية، حيث إن الإنسان غير مالك لها بعد الموت كما أن الورثة يرثون ماله وليس جسده، ولذلك فإنه لا يجوز إخضاع أعضاء الإنسان عموما للبيع بأي حال من الأحوال». وعلى الرغم من تحريم وتجريم المتاجرة بالأعضاء بيعا إلا أن علماء وفقهاء الأمة أجازوا التبرع بالأعضاء وفقا لضوابط تباينت بينهم بحسب العضو المتبرع به: «إن كان محل التبرع عضوا تتوقف عليه الحياة كالقلب فلا يجوز التبرع به بإجماع العلماء لأنه يعتبر قتلا للنفس التي حرمها الله تعالى، أما إن كان غير ذلك كالكلية والشرايين فقد صدرت فتاوى من عدد من المؤتمرات والمجامع والهيئات واللجان بجوازها، ومنها على سبيل المثال: المؤتمر الإسلامي الدولي، مجمع الفقه الإسلامي، هيئة كبار العلماء السعودية، ولجن ة الفتوى في كل من الأردن والكويت ومصر والجزائر». .. وإطار قانوني حسمت بعض الدول الإسلامية مسألة زراع ة الأعضاء واستطاعت القضاء على ظاهرة تجارة الأعضاء وقننتها في إطار شرعي وقانوني مستندة في ذلك إلى قرار مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في جدة عام 1408ه بشأن انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر، حيا أو ميتا. ومن بين هذه الدول التي أخذت بتلك الفتوى السعودية. وفي مصر هناك مشروع قانون معروض على مجلس الشعب يتضمن الرأي الديني والقانوني في مسألة نقل الأعضاء ومن المحتمل أن يتم مناقشت ه في الدورة البرلمانية الحالية حتى يخرج إل ى النور ويفتح باب الأمل لكثير من المرضى الذين تكتظ بهم قوائم الانتظار في المستشفيات سواء كانت عمليات نقل قرنيات أو كلى أو كبد وخلافه، إضافة إلى القضاء على ظاهرة تجارة وسرقة الأعضاء التي تتم عن طريق مافيا تجارة الأعضاء والتي غالبا ما تخلف وراءها مشكلات كثيرة. الآن يستعد أبو مهند للسفر بعد أيام إلى مصر لإنهاء إجراءات عملية نقل الكلية لابنه، وكل الدعوات ألا يقع، هو الآخر، ضحية جديدة لعصابات الاتجار بالأعضاء البشرية كما حدث لكثيرين سبقوه