للبحر في الإبداع العالمي معطياته العميقة التي تشرح العلاقة الكامنة بين الإنسان والمجهول، والماء أصل الأشياء وذلك ما قد يفسر ارتباطنا به من جميع الزوايا الإبداعية، ولذلك تمنح شفافيته نزوعا فطريا للتماس معه وتصويره بأروع الصور، ولعلنا لا ننسى رواية «العجوز والبحر» لآرنست همنجواي التي تعتبر من عيون الأدب العالمي، غير أننا في الفن التشكيلي نتوقف عند لوحة «الموجة التاسعة» للفنان الروسي إيفان إيفازوفسكي التي تجعل من البحر كيانا محايدا إلى حد كبير يدفع عنه الرؤية الشريرة التي تبتلع الناس. أنسنة البحر مهمة في إطار الرؤية الفنية للوحة حتى يتمكن إيفازوفسكي من تقديم رؤية واسعة بمساحة الأفق الأزرق وعمق الماء لأن ذلك من صميم النفس البشرية التي تزخر بأعماق دفينة ورؤية واسعة ينطوي فيها ذلك العالم الكبير، ويركب الفنان في اللوحة موجة عالية تقدم البحر والإنسان «البحارة» واعتساف اللحظة الشريرة ومحاولة النجاة ومن ثم تصوير وضع مأساوي يتمسك فيه البحارة بأهداب الموجة من أجل النجاة والعودة للحياة. أثناء ذلك نجد أنفسنا في تدرج من اللحظات السعيدة التي يمنحها البحر بسحره الأزرق والأفق الممتد قبل أن تصعد الموجة وتعطينا تلك اللحظة المأساوية، ويمكننا بعد ذلك تصور النهاية، لأنه يتوقف حيث نشعر بالأمل في شيء ما قد يكون النجاة، وفي النهاية قد نغادر اللوحة وفي أذهاننا جملة مفارقات حول مصير البحارة وما إذا نجوا من سطوة الموجة أم ذهبوا بعيدا في الأعماق، لأنه وضعنا في اللحظة الأخيرة حينما وضع الريشة. هناك قيمة أخرى إلى جانب تلك التي تجمع المأساة بالأمل في النجاة، وهي القدرة الفائقة في التدرج اللوني، فإيفازوفسكي يبدو طبيعيا إلى الحد الذي يؤكد التحامه مع الطبيعة بصورة العاشق والخبير بكل تفاصيلها، وهو درس رسم المناظر الطبيعية في أكاديمية الفنون الروسية ولذلك لا غرابة في أن يقدم شفافية طبيعية على هذا النحو الذي يمنحه طاقة إبداعية تمزج الموضوع باللون بما يجعل الحقيقة تتجسد بكل موضوعيتها. تقدم أشعة الشمس الذهبية في اللوحة واقعية مدهشة تعبر عن سيطرة ناعمة للفنان على ألوانه، وهي حرفية تضعه في موقع متقدم من الإجادة الفنية، فاللون سمح له بالتحرك بعفوية وتلقائية مبدعة في وصف الحالة، فالموجة عندما ترتفع وتصافح أشعة الشمس تكشف عن الصراع الذي يدور بين البحارة والبحر من أجل أن يبقوا دون أن يؤكد ذلك الفكرة الكلاسيكية حول الشر الكامن في البحر وغدره أو يشوه جماله، لأن الطبيعة تحتمل الجمال والمأساة، وإن كان قدر أولئك البحارة أن يبتلعهم البحر فذلك مصيرهم ونهايتهم ولكن تبقى للطبيعة قوانينها ومجازفاتها المعلومة مسبقا للبحارة وغيرهم، ولذلك ننتهي في «الموجة التاسعة» إلى تأكيد صورة إبداعية رائعة للبحر وتمسك الإنسان بحقه في الحياة في أسوأ اللحظات مأساوية.