القارئ لسيرة الفنانة التشكيلية السعودية تغريد البقشي سيقف على عطائها الكبير الذي قدمته في مجال الفن، فعلى المستوى الأكاديمي تحمل تغريد درجة الماجستير في مناهج التربية الفنية، كما أنها عضو مؤسس لمجلس إدارة الجمعية السعودية للفنون التشكيلية (جسفت)، ولها مجموعة من الكتابات الأدبية والمقالات النقدية في الصحف، شاركت بندوات تشكيلية في مجال النقد التشكيلي، ورشحت لأوسكار الذهب العربي من خلال مشاركتها في مسابقة الإبداع الحر لتصميم المجوهرات لعام 2002م في دبي.. وتحمل البقشي رؤية خاصة عن دور المرأة السعودية في المجتمع والرسالة التي تود أن تحققها في الحياة، ترسم الأنثى بأسلوب خاص يميزها كعقل وقلب وروح وتسلط الضوء على الجوهر وتبين من خلال أعمالها الهاجس في تحقق إنسانيتها وحريتها بدون سلطة وقهر، أقامت العديد من المعارض الشخصية وشاركت في المحافل الدولية بمعارض في مسقط والبحرين والإمارات العربية والكويت والمغرب ولبنان ومصر والهند والنمسا وكوريا وألمانيا والأرجنتين، ومن أهم إنجازاتها تمثيل المملكة العربية السعودية في بينالي المرأة والفنون 2010 م في دولة الإمارات العربية في متحف الشارقة للفنون، وفي بينالي بنجلاديش 2008 ومتحف مونتبريا باريس التابع لمتحف اللوفر 2010م، ومعرض عودة المحجبات لندن 2010م، والمعرض العالمي نورد أرت ألمانيا 2011، والمعرض السعودي الهندي في متحف الملك عبدالعزيز التاريخي الرياض 2011، كما فازت بالعديد من الجوائز على المستوى المحلي والخارجي أهمها جائزة السفير المركز الثاني 2007م، وجائزة المفتاحة للفنون التشكيلية 2009م.. بهذه السيرة المحتشدة بالعطاء حملت تغريد أعمالها الفنية لتحط الرحال يوم الرابع من شهر مارس الماضي، لتقدم معرضها الشخصي «عودة القطط» بغاليري «تلال» في الكويت، مقدمة من خلاله أكثر من (30) عملًا فنيًا اعتمدت فيه على الجرأة والفكر المغاير، الذي يبدو جليًا من خلال اسم المعرض نفسه.. فحول هذه التجربة، ومسمى المعرض تقول البقشي: كان المعرض جميلًا ورائعًا، وحظي بإقبال كبير من الفنانين والنقاد والإعلام ومحبي الفن التشكيلي بالكويت، وقد بهرهم خروجي عن المألوف من خلال اسم المعرض والجرأة في اللون والطرح والفكرمما دفعني ذلك للتفكير في نقل المعرض إلى صالة رؤية للفنون بجدة خلال الأشهر المقبلة بإذن الله.. وتضيف تغريد كاشفة عن فلسفتها حول اختيار اسم المعرض «عودة القطط» قائلة: كان اختياري لهذا الاسم من واقع أن القطط موجودة في حياتنا بشكل كبير؛ فهي موجودة في المنزل والشارع والحديقة، بالإضافة لكونها موجودة في الأساطير والحضارات القديمة، ولها رموز ودلالات في هذه الحضارات.. وتتابع البقشي حديثها قائلة: ولأنني لا أرسم كما يفعل الآخرون.. ولأنني أنفذ إلى أعماق اللوحة، ولأنني أزرع ياسمينا في قلوب من يسكنون لوحاتي.. والكثير من النور الشفيف الذي يعبر إلى الطرف الآخر من اللون.. اخترت أن أقيم هذا المعرض الذي يضم الكثير من الأحاسيس المخبأة، ويخلق جوًّا من التضاد والتجانس في آن واحد.. فهناك قطط تموء ونساء يسكنهن الأمل وعيون هنا وهناك لا تنفك من النظر للمارين أمامها بدون انكسار أو وجل.. وقد قدمني جاليري «تلال» الذي تملكه السيدة سلوى القاضي بهذه الكلمات التي توجز اللون في لمحة ضوء: «وجوه كثيرة في محيط فني رائع لا يشبه أحدهم الآخر، فهذه الوجوه بصمة إنسان، وشهادة تفرده شخصيات تغريد مغلفة بنسيج من المشاعر الإنسانية السامية».. تغريد البقشي.. فنانة الضوء الشفيف تجربة البقشي تفاعل معها الناقد والدكتور محمد عبدالمجيد فضل بقوله: تغريد البقشي من الفنانات اللاتي استطعن شق طريقهن إلى النجاح في المجال التشكيلي بثقة تامة وبهدوء وفي زمن قياسي لا يتجاوز العقد الواحد إلا بخمسة أعوام على وجه التحديد والدقة، ففي هذه الفترة الوجيزة تمكنت من إيصال فنها إلى جمهور عريض، وأن تنال تقديرًا كثيرًا من المتلقين العامة والخاصة الذين تمثلهم لجان تحكيم المسابقات والمنافسات التشكيلية. ويضيف فضل: وإبداعات الفنانة تغريد لا تقتصر على المجال التشكيلي؛ بل تتعداه لتشمل المجالات الأخرى التي شملت التصميم في مجال المجوهرات، حيث رشحت لأوسكار الذهب العربي، وفاز تصميمها من بين ثلاثين تصميمًا أخرى اختيرت من بين ستمائة وتسعين مشاركة على مستوى العالم العربي. ويشمل إبداعها كذلك مجال الكتابة بنوعيها الكتابة الإبداعية والكتابة الصحفية التي تعالج قضايا تربوية واجتماعية وقد قدمتها للمتلقين على موقعها الشبكي.. ولم تصل الفنانة إلى تقديم هذه التجربة إلا بعد الاجتهاد والاستفادة من السابقين ممن أبدعوا في المجال الفكري والفني، فنجد أسماء بعضهم منتشرة هنا وهناك عندما تستشهد بآرائهم؛ فمن هؤلاء سوفوكليس الذي يعد من أعظم المسرحيين التراجيديين في الأدب اليوناني القديم، ومنهم نيتشه الفيلسوف الألماني صاحب فكرة لسوبرمان والذي عاش في الفترة ما بين 1844م و1900م، ومنهم أيضا فرويد (1856-1939م) مؤسس طريقة التحليل النفسي، وأشهر علماء علم النفس ومن هذا الثلاثي نجد اضاءات تفيدنا كثيرًا في سبر أغوار أعمال الفنانة تغريد التشكيلية، فسوفكيلس هو (التراجيديا أو المأساة) ونيتشه هو (الفلسفة) وفرويد هو (علم النفس).. ومن هنا يمكن أن نخلص إلى أن لأعمالها الفنية أبعادًا فلسفية وأبعادًا نفسية وأبعادًا مأساوية.. فلنأخذ هذا الثلاثي ونقف به ومعه وأمام أعمالها الفنية التشكيلية التي ركزت في أغلبها على الوجه البشري - الأنثوي خاصة (فمآسي الأنثى) تبرز تعابير الوجوه الصامدة القوية التي تجابه الماسي وتتسامى عليها في شموخ استمدته من شموخ أشجار النخيل التي تنتشر في كل مكان في بيئة الفنانة الشرقية فاستطالة الأعناق في أغلب الوجوه ترمز لهذا الشموخ، وفي كل الملامح تأكيد ومبالغة بل ومبالغات، كما وصفتها الفنانة بقولها، مبالغات لها دلالة على السمو والرفعة والأنفة وتحقيق الأهداف المعلقة بالنجوم، واختراق حواجز الفشل. لذا لا أعتقد أن هناك إيحاءات ومطابقة لوجوه معروفة على وجه الأرض، وفي إحدى اضاءاتها تؤكد أن الحياة هي التي علمتها لغة الوجوه وأسرارها، وقد تعودت الدخول إلى أعماق الذات لاكتشاف بواطنها ومشاعرها، ولا بد أن فرويد قد ساعدها كثيرًا على هذا فجاءت أعمالها التي تصور الوجوه تحمل قيمًا وأسرارًا غامضة تجعل المشاهدين لها والفنانة أيضًا - يشعرون أن هناك علاقة قائمة بينهم، وأن هناك حوارًا صامتًا. فاللوحة أو الوجه يبث ما ألمّ به من ألم ودهشة وغربة واستنكار، ومجموعة كبيرة لا نهائية من المفاهيم تجعلك دائمًا تتأمل في تأملها حتى بعد المضي والرحيل من أمامها.. ويمضي فضل في حديثه مضيفًا: ومن سمات التفرد في تجربة تغريد التشكيلية أنها استطاعت أن تخلق من الوجه أعمالًا خلاقة ومتنوعة وأرى أنها تؤكد فكرة رئيسية وهي أن التنوع والاختلاف قائم في كل الحياة، وأن الوجوه البشرية تشبه البصمات، فلو كبرت بصمات مائة شخص وعرضت لرآها الزائر العجل غير المتأني متشابهة ومتكررة، غير أن المتفحص والدارس والمتأمل يدرك أن خطوطها تكون جزرًا تختلف اختلافًا كبيرًا، وكل بصمة تعد متفردة كل التفرد ولا تطابقها أي واحدة أخرى في العالم. وهكذا الأمر مع الوجوه التي قدمتها الفنانة في تجربتها هذه، فهي متفردة، ولكل وجه من هذه الوجوه رسالة عامة ورسالة خاصة وقد تشترك مجموعة من الوجوه في توجيه رسالة واحدة مع الاحتفاظ بالخصوصية والتفرد الذي يميز كل واحد (وجه) عن الوجوه الأخرى المشتركة معه في أداء الرسالة العامة والتي تسعف الفنانة المتلقين بإضاءة لغوية في شكل اسم عام للمعرض الذي تقدمه. ويتابع بقوله: في تجربة تغريد التشكيلية استخدام مميز للألوان، واستغلال لكل إمكاناته الرمزية وإيحاءاته. وقد نجحت في إيجاد علاقة حميمة بين الخطوط والألوان، فكثيرًا ما تستغني عن الخطوط وتجعلها تستلهم استلهامًا من العلاقات اللونية، فطبقات اللون تتداخل في تدرج رقيق يصعب معه التحديد أو التعرف على الخطوط التي تحدد الإشكال المرسومة.. تغريد لم تجذبها المفردات التشكيلية التي اجتذبت كثيرًا من الفنانين والفنانات، تلك المفردات التراثية والبيئية التي أسرتهم وقيدتهم فلم يتمكن كثير منهم الانفلات من إسارها، ومن الغريب أيضا أنها لم تجذبها وتأسرها المناظر الطبيعية ولا البحرية ولا الطبيعة الصامتة، ولعل هذا يعد ميزة لا غموض فقد اختارت أن تبدع بطريقة عبقرية، والعبقرية أن تحلق في السماء بغير يد، والمشاهد لأعمالها يدرك مدى الجدية في تناولها للعمل التشكيلي، ومحاولاتها الجادة لاستقصاء كل جوانب ما تبحث فيه. وقد اختارت هذا المشروع (الثيم) المتمثل في الإنسان ومازالت تدرس وتستقصي وتتأمل وتخرج فنًّا كاملًا رقيقًا يلامس مشاعر المتلقين ويدفعهم للتأمل والتحاور مع الوجوه المرسومة ومشاركتها في آلامها وأحزانها وأفراحها ولحظات حبها ووجدانها وتأملها لهذا العالم الغريب الذي يدعو للتأمل والتفكر. واختتم حديثي عنها بإضاءة من الفنانة قالت فيها: «للمجتمع الذي يحيط بي تأثير كبير على شخصيتي فتراني هادئة أحب السكون.. وحيدة في فكري حتى عندما أكون في حشد كبير من الأفراد.. لكن في أعماقي بركان من المشاعر التي تسربت فالتهبت لتشتعل وتكون حسًّا يؤرقني بأفكار وقيم ومفاهيم وطموحات وأحلام وآمال وخطط».. أقف مبشرًا لكل المتلقين لفنها بأن في جعبة هذه الفنانة الكثير الذي سوف يسعدون برؤيته قريبًا، ولعل العمل الذي عرض بمسابقة السفير الأخيرة دليل على عظمة ما سيأتي من أعمال تشكيلية مميزة.