ليست الأولى، وحتما لن تكون الأخيرة، تلك الحادثة التي هزت المجتمع القصيمي، عندما حملوا الفتاة ذات العقدين والنصف جثة هامدة، من بيت راقٍ، بعدما أهدوها له أملا في أن يعيدها لهم نابضة بالحياة، وينزع عنها لباس المرض، بترتيل آيات الذكر الحكيم. لكن الراقي الشهير، الذي لم تسجل ضده أي ملاحظة في بريدة، خلال الفترة الماضية، حاول التخلص من الجان الذي يسيطر على الفتاة، بصعقة كهربائية، فأنهى الجان وقبله قتلت الصعقة الفتاة، التي لم تكن سوى طالبة جامعية في أول سنة بجامعة القصيم. لكن الحادثة لم تكن الأولى ولا الأخيرة، ففي إبريل الماضي، كان القتل بالرقية حاضرا في الجنوب، في محايل عسير، عندما حملت أسرة ابنتها التي لم يتعد عمرها 26 عاما أيضا جثة هامدة من منزل راقٍ شهير في المنطقة. وعلى الرغم من القيل والقال في وفاة الفتاة، بمحاولة التأكيد على وفاتها بعيدا عن المحيط العازل لمنزل الراقي والمستشفى الذي نقلت له الفتاة بعد ذاك، إلا أن القتل بالرقية لم يخرج عن السبب في الحادثة. وإذا كانت الرقية تمثل في جوهرها الكثير من التطبيب الشرعي، إلا أن ممارستها من بعض الرقاة غير الشرعيين، يفتح المزيد من التساؤلات والشبهات حول من يرقي ومن يرقى له. وقبل نحو أسبوع، في 27 أكتوبر الماضي، خرجت أوساط الجنوب تتحدث عن الراقي غير الشرعي الذي اختلى بفتاة، فضبط متلبسا بخلوة غير شرعية، ليتضح أنه ليس شرعيا في الأصل. من هنا كان الاتجاه واضحا حول الرقاة والدور المهم الذي يقومون به، والدور الخطير الذي يمارسه غيرهم، ممن ارتدوا ثوبهم وعاثوا في الأرض فسادا. لكن القصيم التي استيقظت على أصوات المعزين في فتاة الجامعة، التي دخلت حظيرة الرقية بأقدامها، وخرجت محمولة على الأعناق، لم تسكت على ما ارتكب، وما قيل وما قال. بالأمس خرجوا صفا واحدا، يحاولون تشخيص المرض ويحددون العلاج. اعتبروا أن موت الفتاة قضاء وقدر، لكن الأسباب يجب تحديدها؛ لدرء المخاطر. وانتقدوا العمل غير الشرعي من الخارجين على أعراف ومقومات الرقية، فلا حموا المحارم من شهواتهم، ولا حموا أنفسهم من سقطات يعاقب عليها النظام سجنا، ويعاقب عليها الضمير وخزا، ويعاقب عليها المجتمع رفضا وقطعا. قالوها بالإجماع، وإن لم يكن الصوت، في محيط زماني واحد، لكنه في محيط مكاني واحد، اسمه حيز الوطن «لا للخروج عن الرقية، أو تشويهها سواء بتقنيات عصرية خادشة ومنتهكة للحرمات، أو بهفوات عقل مسقطة لأوراق التوت التي تحمي المريضات». سيدات بديلات الصوت الأول خرج بصرخة أولى من قاضي المحكمة الجزئية ببريدة الشيخ إبراهيم القفاري، لكنه على غرار «درء الشبهات»، مشددا على أنه «يجب تأهيل النساء للرقية الشرعية من خلال الدورات، لكي يتم القضاء على عملية التحرش بالنساء وابتزازهن، لأنهن أضعف من الرجال وعاطفتهن تجرفهن نحو رقاة غير موثوق بهم». في حين أبقى على الحل كصوت ثانٍ، واقعا ملموسا «تم تدريب وتأهيل أكثر من خمس نساء في مدينة بريدة، وهناك أخريات في أجزاء كثيرة من وطننا الغالي، عملهن يرتبط بالرقية الشرعية لبنات جلدتهن، لمنع الاختلاط، ولدرء الشبهات». باب المحتسبات وحملت الصرخة الثالثة من القفاري التأكيد على أن «تدريب الكوادر النسائية للاحتساب في مزاولة الرقية مع النساء هو الحل الأمثل في هذا الباب، وهذا الأمر يحتاج إلى تشجيع ودفع للفتيات للتخصص في هذا المجال، فالجامعات والكليات بحاجة إلى فتح بعض التخصصات التي تهتم بالرقية الشرعية السليمة، لأن الرقية الشرعية باتت ضرورة ملحة في ظل انتشار السحر والعين والمس مع ضعف الإيمان، وغفلة الكثير من الناس عن التحصن بالأوراد الشرعية، إلا أنه لا يعني غفلة الرقيب عن متابعة الرقاة، وسن قوانين وأنظمة تنظم عملية الرقية لمن ترغب في الاحتساب فيها كغيرها من الأعمال الاحتسابية، كما أن سن الأنظمة يحد من انتشار الممارسة الخاطئة من بعض الرقاة وتحمي المرضى من استغلالهم من قبل المشعوذين». وفي عسير، أقر الناطق الإعلامي لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الشيخ بندر آل مفرح، بوجود راقيات يعملن في المنطقة، ويخضعن لرقابة في ممارسة عملهن «الحال ينطبق على بعض النساء ممن يشتغلن في هذه المهنة وتتم متابعتهن بأساليب متقدمة؛ منها زرع مصادر رسمية نسائية تقدم تقاريرها بكل دقة». غياب السلطة وفي حين كانت المطالبة بسلطة واسعة على الرقاة لمنع الخروج عن النص الشرعي، اعترف رئيس هيئة بريدة الشيخ عبدالله المنصور، بأنه «في الحقيقة لا توجد سلطة واضحة على الرقاة بشكل عام». لكنه عاد للتأكيد على دور اللجنة المركزية التي يعود تشكيلها إلى ما قبل 12 عاما «1419 ه»، في مراقبة الرقاة «تم تشكيل لجنة مركزية تضم مديري بعض الإدارات كالإمارة والشؤون الإسلامية وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكذلك الشرطة وتنبثق منها لجنة ميدانية تراقب الوضع العام للرقاة، لكن الهيئة في الحقيقة لا يمكن أن تتحرك إلا وفق شكوى فقط أما من تلقاء نفسها فلا تستطيع، وتم منع الكثير من الرقاة، بعضهم استجاب وبعضهم تم تحويلهم لهيئة التحقيق والادعاء العام لإصدار الحكم الشرعي في حقهم». وأشار إلى شروط الراقي «هي في الحقيقة كثيرة منها عدم اختلاطه بالنساء دون محرم، وألا يتم طلب مبالغ خيالية تثير الشك والريبة، وكذلك الشهادة له بالصلاح والعلم، كما لا بد أن يكون سعوديا، ولا ننسى عدم بيعه لأدوية غير مصرح بها». وأيده الشيخ بندر آل مفرح «بالنسبة إلى الرقاة فإن متابعة أوضاعهم يتم وفق آلية معتمدة وبصلاحيات واضحة، وبشكل مستمر ولدينا لجان ميدانية تتكون من عضوية إمارة عسير والبحث الجنائي والشؤون الإسلامية ورئاسة عضو من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعسير، ولدينا أيضا لجنة مركزية عليا تضم رئاسة وكيل الإمارة للشؤون الأمنية وعضوية مديري العموم في الهيئة والشرطة والشؤون الإسلامية، والتي يعرض عليها كل ما يرفع من اللجان الميدانية العاملة وترفع النتائج والتقرير لأمير المنطقة لإصدار التوجيه اللازم حيال نتائج الزيارات للرقاة المعروفين، أو من يستخدم هذه المهنة لغرض مادي أو التجاوزات الأخلاقية كما حدث قبل فترة في خميس مشيط». وأشار إلى أن رجال الهيئة استطاعوا ضبط عدد من المتجاوزين، وقدموا للعدالة، وبموجب محاضر رسمية توضح سبب القبض والإحالة، وهنا يجب معرفة أن الرقية الشرعية مطلب الجميع، إذا كانت منضبطة بضوابط الكتاب والسنة ومن يعمل بذلك كثير». لا علاقة وفيما بدت الضبابية تلوح حول من يتحمل رقابة الرقاة، سارع أمين منطقة عسير حمدان بن فارس العصيمي، لتأكيد عدم علاقة الأمانة بموضوع الرقية، ملقيا العبء على الشؤون الإسلامية «لأن الأمانة لا تصدر تراخيص للرقاة، والمجال ليس من اختصاصنا، بل الأمر يخص الشؤون الإسلامية والهيئة والجهات الأمنية، ولا علاقة للأمانة بالموضوع، ومع ذلك نقدم كل ما لدينا في حالة طلب منا التعاون، لأن الهدف خدمة الوطن والمواطن». لا علاقة لنا بالأمر ورغم التأكيدات على دور وزارة الشؤون الإسلامية، ومسؤوليتها عن الرقاة، باعتبارها الجهة المعنية بشؤون أصحاب الفضيلة، والمطالبات بإصدار تصاريح لهم، إلا أن المدير العام لفرع وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بالقصيم سليمان بن علي الضالع، اعتبر علاقة الوزارة بهؤلاء الرقاة علاقة «ليس لها وجود»، مشددا على أنه «في الحقيقة الشؤون الإسلامية ليس لها علاقة بالرقاة لا من قريب ولا من بعيد، فقط لدينا عضو باللجنة المشكلة من قبل وزارة الداخلية بخصوص هذا الأمر ولسنا مرجعا لهذا العضو». العقوبة للمتجاوزين وكشف المفتش المكلف بمجلس القضاء الأعلى بالرياض الشيخ إبراهيم الحسني، أن الأحكام على الرقاة المخالفين تتراوح بين عام وثلاثة أعوام سجنا «القضاة لديهم أحكام كثيرة بهذا الخصوص، وسبق أن حكم على العديد من الرقاة المخالفين، حيث تراوحت الأحكام بين السجن لمدة ثلاثة أعوام وعام، والقضاة لا يتساهلون إطلاقا في الأحكام المغلظة على كل راقٍ مخالف». رقابة أمنية وبين المتحدث الرسمي بشرطة القصيم المقدم فهد الهبدان، أن الشرطة لديها عضو يمثلها في اللجنة المركزية لمراقبة الرقية بشكل عام، موضحا أنهم يراقبون الوضع العام للرقية ويدونون ملاحظاتهم حول الرقاة المخالفين ويتم رفعها من قبل عضوهم للجنة المركزية «نستدعي من تكثر حولهم الملاحظات من الرقاة للشرطة، ويتم الاستماع لأقوالهم ومصارحتهم بأخطائهم، وتنبيههم في بداية الأمر، ثم مراقبتهم بعد ذلك للتأكد من تجنبهم للمخالفات الملاحظة عليهم، وفي حال عدم تجاوبهم نحولهم لهيئة التحقيق والادعاء العام للنظر في أمرهم قضائيا» .