أكثر من سيناريو يرد بين الحين والآخر على خاطري كلما تكدر ناظري برؤية أولئك الذين يلوثون الشوارع مهما نظفت واتسعت وأنفق عليها عشرات الملايين. السيناريو الأول المفزع إخراج وزارة العمل الموقرة والمنتهي برحيل جميع العمالة المتخصصة في كنس شوارعنا القذرة التي لا ننظر إليها بصفتها جزءا من بيوتنا وثقافتنا والصورة الذهنية التي ترتسم لدى الآخرين عنا. قبل أيام قليلة كنت مارا بالكورنيش الجميل، فإذا بأحدهم يفتح نافذة السيارة ليلقي منها علبة ألمنيوم كادت أن تصيب سيارة أخرى. مشهد يتكرر طبعا، ويتكرر معه كل صباح منظر العامل الذي يجمع قاذورات ألقيناها في عرض الشارع مع سابق الإصرار. طبعا سينتهي هذا السيناريو بمزبلة كبيرة في حجم مدينة جدة تنبعث منها روائح (شانل) وبارافان (ديور)، وتعيث فيها الفئران فساداً. أما السيناريو الثاني الذي أعده أضغاث أحلام ونزقاً أوهاماً، فهو الأول نفسه، لكن بصنع أيدينا، ونحن له مستعدون. لو جمعنا هذه المليارات التي تُرصد للنظافة، وما هي إلاّ ربع نظافة، ثم استوردنا بها مباشرة من الخارج (قطعا لدابر الفساد) ألف سيارة خاصة بالنظافة، ووظفنا عليها 3000 شاب سعودي جاد (مراعاة للنوبات) براتب محترم لا يقل عن 5000 ريال (مع بدل تقدير وشكر) للعمل عليها للتنظيف عن بعد مع قليل من قرب، ووظفنا للمهمة نفسها 3000 شاب آخرين مزودين بأشباه كاميرات ساهر للنظافة، يصورون ويفرضون غرامات فورية على كل من مارس هواية توسيخ الشارع بهوايته الساقطة التي ألفها طويلا، وما من رادع ولا ذوق ولا تحضر. نريد أن نكون يوما متحضرين، وأن تكون شوارعنا وحتى أزقتنا عاكسة فعلا لثقافتنا وتحضِّرنا، لأنها اليوم تعكس صورة شائهة لمدى التراجع الحضاري الذي نعيشه، فلا ديناً يأمرنا بالنظافة نطبقه، ولا سلوكا تدعوه إلينا مدارس التعليم العام نمارسه، ولا منطقاً تدعو إليه الفطرة السليمة نتمسك به. إنها قصة طويلة مؤلمة، ولن تنتهي فصولها بمجرد الأماني والتمني، ولا بالمواعظ والنصائح، وإنما بالعقوبات والغرامات ردعاً وتقويماً وزجراً وتأديباً. هل حقاً نحن عاجزون عن مواجهة هذه المعضلة التي تستنزف الأموال والأعصاب وتحير العقول والألباب.