منذ قرون طويلة أخذ -ثقل- القرار العربي يبتعد شيئاً فشيئاً عن المركز الرئيسي الذي انبثقت منه راية التوحيد الإسلامية حاملة معها مشاعل الفتوحات والتنوير وما أن انتصرت تلك الفتوحات حتى أخذت تتمركز في أقطار أخرى مستفيدة من إمكاناتها ومقومات التقدم إلى مواقع أخرى. فمن الشام انطلقت إلى أوروبا حتى دقت أبواب النمسا شمالا ، ومن القاهرة إلى الشمال الإفريقي ومن ثم إلى الأندلس ، ومن بغداد إلى فارس والهند إلى أبواب الصين شرقا ومن بحر العرب إلى رأس الرجاء الصالح وجنوب القارة الإفريقية. كل تلك الفتوحات والطموحات والتطلعات والرؤى انبثقت من قلب الجزيرة العربية ، من بطحاء مكة ومن واحات المدينةالمنورة على أيدي قادتها البواسل الذين تعلّموا على يدي رسول الإسلام العظيم سيدنا محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة والتسليم تحت راية الإسلام وفي إطار دولة الفكرة ومنهج الإسلام القويم. والمتتبع لتلك الفتوحات وما نتج عنها من الاستقرار والبناء والآثار التي تركتها التغييرات في تلك المجتمعات يدرك مدى الآثار الإيجابية التي تحققت في عصر الفتوحات الإسلامية وهي مازالت شاهدة وماثلة إلى يومنا هذا في تلك الأمصار. في دمشق عاصمة الأمويين ، والقاهرة عاصمة الفاطميين ، وبغداد عاصمة العباسيين ، والمغرب العربي معقل الموحدين ، وتركيا عاصمة العثمانيين. كل تلك المواقع أصبحت فيما بعد مراكز مستقلة ينافس بعضها البعض على قيادة الأمة. وبدلا من توحيد جهودها لكي تكون مواقعها الأمامية روافد تصب في معين واحد تحت لواء مركزي تدرس فيه كل القرارات المصيرية وتوزع المسؤوليات على المراكز الفرعية كل حسب إمكاناته وحسب المهام التي توكل إليه ؛ تشتت الشمل وتباعدت الرؤى وتغلغل الأعداء بين الصفوف وزرعوا بذور الفتن وزادت الفرقة بين المسلمين. والمتمعن في وسائل الاتصالات والمواصلات في ذلك الوقت قبل اختراع الآلات الحديثة بكل أنواعها حيث كانت الخيول والجمال والفيلة وسائل نقلهم ، والرماح والنبال والسيوف آلات حروبهم ، يستعجب من طول المسافات ، ووعورة التضاريس الطبيعية من جبال وصحار وبحار وأنهار وغابات ، كيف تمكن الجند وقادتهم من نقل عتادهم الحربي ، وحمل متاعهم ، والحفاظ على تنظيمهم وانضباطهم ، والتغلب على المشقات التي واجهتهم ، ومع ذلك يحاربون وينتصرون على أصحاب الأرض ويبثوا روح التسامح والهداية ، والعفو ، ويحظون بالقبول والدعم والتوسع والازدهار في إطار إسلامي شمولي. إنها قصص عظيمة وعجيبة وجدير بأبنائنا أن يعرفوها ويتمعنوا في مغازيها ومعانيها العظيمة ومشاركتها في صنع حضارة العصر الحديث التي ينعم بها إنسان اليوم في كل مكان .. أليس كذلك؟! إن الحراك الذي يقوده خادم الحرمين الشريفين في المرحلة الراهنة وما يحمله من صدق النوايا وشهامة العزيمة وقوة الإرادة ، يعد من البوادر الإيجابية لكي تستعيد الجزيرة العربية دورها التاريخي الذي ابتعد -في فترة خلت- عن منبع الإسلام ومهد العروبة ومع ذلك الابتعاد أصيب بالتشتت والتشويش والتشرذم. وإذا كانت وسائل الأمس البدائية مكَّنت الرواد من الفتوحات العظيمة وغرس راية الإسلام في أصقاع الأرض فلماذا لا تكون وسائل العصر الحديث -في القرية الكونية- قوة لاستعادة المركز دوره القيادي وانبثاق نهج جديد بمصداقية شفافة ورؤى معاصرة تفرز الأصلح للأمة وتعيد لها مجدها وإصلاح شأنها؟! إن النجاحات التي تحققت في الماضي بعيدا عن المركز جديرة بأن تدرس .. وتدرس .. وتدرس بما في ذلك أسباب الانحسار الذي أصابها فيما بعد لدرجة أن ثمانمائة سنة من التواجد في الأندلس ذهبت أدراج الرياح وبقيت آثاره شواهد بارزة، -تشهد له وعليه- حيث تواجد وأبدع، وأنجز ، ومن بعد ، أهمل .. وتهاون .. وأخفق ورحل. فلم يكن بإمكان المركز الذي انطلق منه أن يهب لنجدته ، ولا الفروع التي ينتمي لها حركت إمكاناتها لإنقاذ الإنجاز المشترك الذي كان محسوباً عليها بالانتماء والمرجعية الواحدة. والتاريخ يمكر لك وعليك وهذا حال القوى التي وظفت المكر وفازت ، وبعد حقبة من الزمن ، فقدت الزخم والإرادة التي انتصرت بها وعاد التاريخ ليمكر بها. إن المشهد القاتم الذي تعيشه الأمة قد لا يشجع على التفاؤل ولكن الأمة العظيمة إذا توفرت لها النوايا الصادقة -في لحظات التاريخ الفريدة- تستطيع أن تنهض من كبواتها وتوظف إمكاناتها لتحقق انتصارات خلاقة ، والأمة الإسلامية على موعد مع دور جديد يعيد القيادة للمركز -قلب الجزيرة العربية- وينهض بها من جديد لتلعب دورها الإنساني الشمولي كما فعلت في الماضي وكما ينتظرها في المستقبل بإذن الله تعالى .. والله من وراء القصد.