عادت بي قراءة نصوص ملف القصة القصيرة جداً ، والتهيؤ لكتابة هذه السطور بحزمة من الأسئلة ، تفصح عن أنه من الحمق أن يكون استباق قراءة النصوص يعني بالضرورة إنتاج قراءة فنية لها، بقدر ما هي فرصة لرؤية شمولية الفن السردي وتبادل أجناسه الفنية الحضور ، وتعني بدواعي الحضور لأجناس الكتابة الفنية الإبداعية ، واستجابة لحزمة من الظروف المتشابكة والمعقَّدة ، وتراكماً اجتماعياً وثقافياً وسياسياً ، فتشكل عالم الكتابة السردية رواية (قصة قصيرة) قصة قصيرة جداً ، وترسخ قيم وشيوع كل جنس سردي يحمل دوافعه ودلالته، ويُشكَّل حضور المبدع الخلاق! شكَّلت القصة القصيرة في السبعينيات والثمانييات والتسعينيات حضوراً مدهشاً ؛ حيث نافست الجنس الشعري المتفرد بذائقة المتلقي في الجزيرة العربية ، وأخذت القصة القصيرة بخصائصها وسماتها الفنية ، وتشكَّلت بلغة كتابها مراوحة بين المدارس الفنية المتنوعة ، وخطاباتها المتجاورة لتجسد حالات الضياع وصدمة المدينة ، وكثير من أوجاع تحولات المجتمع حينها. ويضم ملف القصة القصيرة جداً، الذي بين أيدينا ، نصوصاً لنخبة أسماء رواد بارزين في كتابة القصية القصيرة ، ينتمون إلى تلك الحقبة الزمنية التي صاحبت حضور جنس القصة القصيرة مع جيلهم (محمد علوان - محمد الشقحاء - فهد الخليوي - جار الله الحميد - جبير المليحان - فهد المصبح - شريفة الشملان - خالد اليوسف - عبد العزيز الصقعبي - حسن حجاب الحازمي - ناصر العديلي). حضرت الرواية بكثافة بوصفها جنس أدبي في مطلع التسعينيات ، ولها سماتها وخصائصها الفنية ، والرواية جنس أدبي شمولي ، بمعنى أنه تدخل في عباءاتها كل الأجناس الأدبية الفنية (شعر ، وقصة ، ومسرح) ، وتتسع لشرائح بشرية متنوعة وتراكم زماني ومكاني ، وتألقت كجنس أدبي لا بد له من فضاء ، يتماس مع حجم تحولات كبيرة سياسية وثقافية واجتماعية أيضاً ، ورصدت أحداث داخلية وخارجية مؤثرة ، وشاهدة على الحروب المتتابعة في المنطقة الخليجية ، وانتعشت الرواية بدخول التقنية الحديثة ، وسهولة وحرية التواصل مع الآخر ؛ فكانت فضاء شاسعاً للجيل الثاني من كتّاب السرد. وحضر في هذا الملف القصصي ممن كتبوا الرواية ، إذا أسعفتني ذاكرتي : (أحمد زين - حسن الشيخ - خالد خضري - خالد المرضي - خالد اليوسف - صلاح القرشي - عبد العزيز الصقعبي - عبد الله التعزي - طاهر الزهراني - فهد المصبح - ماجد الجارد - محمد المزيني). ظهر أن القصة القصيرة جداً ليست مولوداً طارئاً ؛ فقد تغيب وتحضر حسب الظرف السياسي والثقافي والمجتمعي ، وينسب ظهورها الأول في الأدب العربي إلى الكاتب اللبناني جبران خليل جبران في الأربعينيات في كتابيه المجنون والتائه ، وربما وجد البعض لها جذوراً في التراث العربي كقصار الآيات القرآنية الكريمة ، وجاءت القصة القصيرة جداً خلاصة الكتابة السردية ، والمولود الباحث عن مكانة لائقة به بين الأجناس السردية فن مراوغ ، يستعصي على قيم البناء المعمارية للأجناس الأدبية الأخرى ، ويعتمد التكثيف اللغوي ، ويتجنب الحشو والاستطراد ، فيظهر في كلمات لا تتعدى سطراً أو بضعة أسطر. واكتسبت القصة القصيرة جداً شرعيتها ، وأصبحت الجنس الأدبي الشائع جداً في العالم وبعض الأقطار العربية ، ونقرؤها في مواقع التقنية الحديثة ومواقع التواصل الاجتماعي الحديثة ، ويشترك في كتابتها بمستويات مختلفة قراء وكتّاب لهم تجاربهم المتراكمة ، وحتماً سيجد هذا الجنس السردي الأدبي رفضاً تقليدياً للذائقة الأدبية التي تخاف التجريب والتجديد وكل ما هو حداثي ، وتواجه الموقف الرافض لبعض الأجناس الأدبية ، كالقصيدة الحديثة والرواية ، التي بطبيعتها بوصفها جنساً أدبياً تسعى إلى كشف مستور وتقوض البنى التقليدية ، ويرفض القصة القصيرة جداً أيضاً بعض النقاد ، لاتكاء الجنس الأدبي على التكثيف الرمز والغموض ؛ ما جعل البعض يطلق على هذا الجنس الأدبي أنه (فن صعب ، لا يبرع فيه سوى الأكفاء من الكتاب القادرين على اقتناص اللحظات العابرة قبل انزلاقها على أسطح الذاكرة , وتثبيتها للتأمل الذي يكشف عن كثافتها الشاعرية بقدر ما يكشف عن دلالاتها المشعة في أكثر من اتجاه)*. ويحضر في هذا الملف 58 كاتباً وكاتبة من كل الأجيال ، يكتبون التنوع في القصة القصيرة جداً بوصفه فناً حديثاً جداً وبمستويات متنوعة ، ونعرف أن بينهم كتاباً رواداً في كتابة هذا الجنس الأدبي الذي يحتاج إلى حساسية خاصة جداً. ممتعة جداً قراءة نصوص تنتمي إلى كل الأجيال والأطياف الكتابية ، تتجاور في خطاباتها وأشكالها وبيئاتها الفنية المتنوعة ، وتظل الكلمة لقارئ النصوص في مضامينها وتجلياتها ، ولكن كلمة شكر مستحقة للزميل المبدع الأستاذ خالد اليوسف الذي بذل جهداً كبيراً في جمع مادة هذا الملف وتقديمه. ويأتي هذا امتداداً لجهود خالد المتواصلة في خدمة الفن السردي وكتابه ، عبر المؤسسة الثقافية كنادي القصة سابقاً ونادي الرياض الأدبي الآن ، واهتمامه بكتابة أنطولوجيا القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية نصوص - وسير. والله الموفق للجميع.