تقوم هذه القراءة على افتراض وقوع فن القصة القصيرة في منطقة عمى يتصل بالجنس الأدبي إذ تراوح بين عدد من الأجناس الأدبية الأخرى، فإذا كان دارسو القصة القصيرة قد صنفوا المنجز القصصي إلى اتجاهات شتى، ووصفوها بأوصاف تراوح بين القوة والضعف والجمال والقبح، فقد كان تناول القصة القصيرة بوصفها فناً أدبياً يعتريه إشكالات تتصل بالجنس الأدبي، لذلك سنتناول هذه الإشكالات عبر محورين اثنين: الأول منها طريقة تشكل هذا الفن في ثقافتنا ومن ثم كيفية استقباله وتلقيه، أما الثاني فيتناول مدى قابلية هذا الفن للتنامي في عصر ازدهرت فيه الأجناس السردية كالرواية والسيرة الذاتية وخبت فيه القصة القصيرة في ظاهرة لا تعد متصلة بالكتابة المحلية فحسب بل تتصل بالكتابة العربية والعالمية. وتجدر الإشارة إلى الدراسة المسحية الأكثر شمولية حول فن القصة القصيرة التي نشرت في The Kenyon Review, vols.30 - ,32 1968 - 1970 التي أكدت أن القصة القصيرة أصبحت فناً هامشياً في معظم الثقافات الغربية، إلا أنها في الدول النامية وشبه النامية مثل الهند وجنوب إفريقيا لازال لها حضورها وشعبيتها ولازالت قابلة للجدل حولها. ويفتح هذا التقرير الذي نشر قبل ما يزيد على ثلاثة عقود الباب جلياً أمام التحولات الثقافية والاجتماعية الكبيرة التي حظيت بها هذه الدول النامية ومن ثم فقد أصبحت قابليتها لإنتاج نصوص قصصية في اللحظة الراهنة موازية لقابلية المجتمعات المتمدنة في تلك الفترة، أي أنها تنحو منحى المجتمعات المتطورة في محاكاتها لتصل إلى الأنموذج المنشود، ولذلك كان تلاشي فن القصة القصيرة هنا أحد أنماط التطور المبتغاة لدى مجتمعات تنشد الكمال في الأنموذج الغربي. وتجدر الإشارة إلى أن نقاد ودارسي القصة القصيرة استوحوا إشكال القصة القصيرة فهذا معجب الزهراني في مقدمته لموسوعة الأدب السعودي مجلد القصة القصيرة يقر بأن كتاب المراحل الأولى لم يكونوا يمتلكون الوعي بالفروق بين القصة القصيرة وغيرها من الأشكال القرابية كالأقصوصة والمقالة القصصية والخواطر القصصية، ويرى أن بعض كتاب مرحلة التحديث يعرفون مقومات القصة القصيرة كوحدة الحدث ووحدة الحافز وتماسك منطق الحبكة ومحدودية عدد الشخوص لكنهم يلجأون إلى التجريب الكتابي. ومن الجدير أن نشير إلى كون الكتابة عن تشكلات الأجناس الأدبية مظاهر عدة من العوائق والميل إلى رسم الحدود بين الأجناس إلا أن الارتهان إلى ثقافة بدأت ترسم معالم جديدة لمفهوم النص وتشكلاته بعيدا عن توافق الأجناسية قد بدأ يظهر في ثقافات شتى، كان ذلك سعياً وراء البحث عن حرية الإبداع دون صنع حدود له، لأن ذلك يتنافى مع أبسط القواعد للكتابة الإبداعية ذاتها، لذلك كان السعي إلى قراءة هذا الفن بداياته وتحولاته في إطارها المحلي معتمدة على تأويل لمنطقة (العمى) في هذا الفن بوصفه موضوعاً لها، وحتى تتجلى هذه المنطقة فنحن أمام نوعين من العمى في القصة القصيرة: عمى داخلي يتمثل في ذلك النوع من القصص الذي يكتب غير مستند إلى أبسط قواعده، وغير معتمد على التجريب الواعي الذي يعتمد على كثافة التجربة وسعة الثقافة، وعمى خارجي يتمثل في تلك المنطقة (الضبابية) التي توشك أن تفضي بهذه الكتابة إلى جنس أدبي آخر، ولكنها لا تنجح في ذلك. بدأت بواكير القص الحديث في مشهدنا الثقافي منذ سبعين عاماً (وأعني بالقص الحديث الفنون القصصية الحديثة التي أنجزت عربياً بأسبقية للرواية ثم القصة القصيرة)، وهي فترة تكفي للإسهام في الدلالة على أمرين مهمين: أولهما نفي حداثة التجربة وعدم اكتمال النضج، إذ مثلت أحدث التجارب الإبداعية في العالم العربي، ما أدى إلى تميز هذا الفن الأدبي بكثافة الإنتاج واختلاف المشارب. وثاني هذين الأمرين هو تمايز الإبداع لدينا، إذ يتميز الشعر عن القصة بتحقيقه الجانب التأصيلي والتجذيري المحايث في ثقافتنا، في حين غاب هذا الجانب التأصيلي المحايث في القصة ومن ثم غياب الأنموذج الذي سنبني عليه فلسفة الإبداع المنصبة على المشاكلة والاختلاف، وإن حضر هذا التأصيل فسيكون حضوراً مبهماً غير فاعل لا يجدي في إثراء القص. إن هذين الأمرين قد أوجدا إشكالين اثنين في المنجز الإبداعي للقصة القصيرة وهما: الموقع المتلاشي وغير المحدد للقصة القصيرة بين الأجناس الأدبية ولاسيما الشعر والرواية، والموقع غير المتميز لدى المتلقي الذي يمكن وصفه أحياناً بكونه لازال خاضعاً لأنظمة تلقي الشعر وأعراف الوعي الشفاهي. وبين ظاهرة التلاشي وعدم التحديد في فن القصة القصيرة ذاتها وانعدام التلقي الفاعل لها سنتعرف فيما يلي على الإشكال الأول المتمثل في موقع القصة القصيرة الذي لم يحقق أنموذج العراقة والأصالة كالشعر؛ ولم ينجح في تحقيق أنموذج الحداثة والمدنية كالرواية التي يمكن أن توصف بكونها الجنس الأسرع انتشاراً وسرياناً في الساحة الأدبية، ولذلك بدا فن القصة القصيرة في منزلة بين المنزلتين، فتجلى متصلاً بالرواية في ظروف ولادته على الأقل في عالمنا العربي، وفي تقنياته التي كثيراً ما تعقد لها المقارنات مع الرواية، فحين نشير إلى ظروف ولادتها، نلمح لها ارتباطاً غير محدود مع الرواية والموسوعات وفي كتب التاريخ الأدبي، التي تشير إلى استهلال الكتابة الإبداعية للقصة والرواية. ولذلك كان تناول المحاور الثلاثة التالية: إطار التعريف، وإطار البدايات المضطربة، وإطار التحولات، ولعل هذه المحاور تسهم في الكشف عن كنه ذلك العمى، وتزيح الستار عن تأصله في هذا الفن، وسنتناول هنا المحور الأول، وسنؤجل تناول المحورين الثاني والثالث إلى الحلقة القادمة: 1) إطار التعريف سنلحظ هذا النص في إحدى الموسوعات العربية وقد ربط تجربة القصة القصيرة بالرواية في العصر الحديث، على الرغم من التفاوت الكبير بينهما في البنية الفنية أو الحجم «أما القصة القصيرة بمفهومها الحديث فقد تأخرت بضع سنوات في نضجها الفني عن الرواية. فجذورها ترجع إلى الرُّبع الأول من القرن العشرين، وكان من روادها محمود تيمور ويحيى حقي. ثم دخل عدد من الكتاب عالم القصة القصيرة، وحظيت بجمهور لا يقل عن جمهور الرواية، كما ناقشت كثيراً من القضايا الاجتماعية والسياسية والفكرية، مستفيدة من قصرها وسرعة إيقاعها وعجلة الجمهور. فأضحت القصة أكثر جرأة وأشد تأثيرًا في حياة الناس ومجتمعاتهم من الرواية ذات النفس الطويل الهادئ»(الموسوعة العربيةالميسرة). ولا يختلف التعريف في الثقافة الغربية كثيراً عن التعريف السابق فهو مرتكن إلى الرواية ومعتمد عليها، لذلك جاء التعريف في Merriam Webster Dictionary كما يلي « هي جنس إبداعي نثري أقصر من الرواية ترتهن عادة إلى شخصيات ذات عدد محدود وتركز على حالات معينة أكثر من تركيزها على الحبكة». ويلاحظ أن هذا التعريف قد استند على وضع خط أفقي تحت كلمة أقصر التي تشكل مفصلاً مهماً في إبراز الملمح الرئيس للتعريف. ويشابه هذا تعريفٌ آخر ورد في قاموس أكسفورد، إذ يعد فن القصة الفصيرة «حكاية نثرية تخييلية ليست ذات طول محدد، لكنه قصير جدا لاتصلح للنشر في كتاب (مجلد) مستقل بذاته مثلما تكون الرواية» وهذا التعريف كسابقه يستند بصورة مفرطة إلى الفن الروائي بوصفه الركن الذي يسهم في تحديد ملامح وجه القصة القصيرة، لذلك تبدو فناً غير قائم بذاته، يرتهن إلى غيره، وله مقوماته غير المحددة. ويؤكد أحد الباحثين في تجربة كتابة القصة القصيرة وهو سحمي الهاجري ذلك الاتجاه حين يحدد تعريفاً للقصة القصيرة يشير فيه إلى ذلك التداخل الواقع بين القصة القصيرة والرواية فيقول: «كان هناك تداخل بين المصطلحين في بداية ظهور الفن القصصي، فقد شاع الاعتقاد بأن أحدهما تصغير للآخر أو اختصار له»، أما منصور الحازمي فقد رأى تداخل القصة القصيرة مع المقالة فيقول: «المقالة هي القالب الأدبي الملائم الذي يتحمل الحقائق الموضوعية،كما يتسع، إن لزم الأمر، للعواطف الجياشة الهادرة والتوجيه والوعظ. فإن كتبوا قصة قصيرة أو طويلة، جاءت صورة أخرى من المقالة الاجتماعية التي تتوخى الإصلاح ولا تلتزم بشروط القصة وقواعدها».