عرف المجتمع الإسلامي الحيلة باعتبارها طريق خفية يُلجأ إليها للتوصل إلى غرض ممنوع فقهاً ، لتكون معبراً لتحقيق منفعة ذاتية برغم صرامة وجسارة النصوص ما يوفر مخرجاً من ضرر واقع أو محتمل ، وبقدر ما نجح المحتالون فقهاً في تحقيق مقاصدهم ونيل مبتغاهم من الحياة الدنيا قدر ما يظل في نفس المحتال شيء من حرج خصوصاً حين ينال باحتياله حقاً لغيره ويمنع عن سواه ما كان مؤهلاً أو مقررا له معتمدين على أثر (من له حيلة فليحتال) وكأنما يسوغ للبشر العبث بالنظام والإخلال بالمقدس تحت مظلة تشريع النصب والفهلوة وخفة الروح واليد وطلاقة اللسان ، ولا غرابة أن يرصد الناس صوراً من التحايل بمظاهر التدين لاستغفال السذج والأبرياء الظانين ظن الخير في كل تدين شكلي يأسر اللب ، ويأخذ بمجامع الأفئدة إلى الطمأنينة للقشر دون خبرة بالجوهر ، وأحسب أن المثقفين ليسوا بدعاً من مجتمع شرع الحيل واخترع فنونا من المسارات والممرات الموصلة لمكاسب آنية وأرباح دنيوية ، فغدا المثقف المحتال صنو المتدين المحتال بجامع فقدان العفة والزهد في كليهما وعوضاً عن تمسك المثقف بالمبادئ والقيم النابضة بحس الانتماء والتجرد من المصالح وتقديم الأمثلة الحيّة على الوعي سقط في بؤرة الحيلة فلم يعد يعنيه تطور المجتمع ولا رُقيّه ولا نماءه في ظل لهاثه وراء ضوء وتعلّقه بمشاركة ونيله منحة أو هبة أو تذكرة سفر يعبر بها من جهة إلى جهة ليؤكد لمن حوله أنه شخصية محسوبة على النخبة التي تجر أذيال الخيلاء، ما نقض القاعدة الأصلية عند الناس فأضحى الهلامي متماسكاً والهش صلباً والنفعي وطنياً بامتياز كونه يُجيد مسح الجوخ والتسبيح بحمد القائمين على مظلة يحسبها الظمآن ماء لتغدو الثقافة طريقاً من طرق الاحتيال عند البعض ممن وعى شروط الانضواء تحت عباءة المسترزقين والمنتفعين ولذا لم يتبلور مشروع الثقافة في بلادنا ولم يتجل بوجهه المُشرق عدا ما يبرز بين حين وحين من مشروعات فردية لأسماء فاعلة اشتغلت على نفسها بوعي وقدّمت ما يشفع لها كقيمة عند الآخر خارجياً لا محلياً ، ولا أُبالغ إن قلتُ إن الرموز الثقافية أوشكت على التلاشي فشخصية بحجم عبدالله عبدالجبار الزاهد في شيك بالملايين وضعه داخل كتاب حتى ترمّد نظراً لما وعاه من خطورة قبول المبلغ وتنافيه مع مبدئه الثقافي المتسق مع الريادة المتلازمة بالعفة والزهد في المال والجاه والعمل على التمسك بالسلوك الذي يرفع منزلة المثقف أمام شعب ومسؤول يعوّل عليه في المبادرة بالمشروعات الإصلاحية والأفكار البناءة، وأخشى أن يقتنع الغالب الأعم من عشاق الثقافة أن الاحتيال بالثقافة وعلى الثقافة ظاهرة صحية فيغدو الشذوذ قاعدة والتشوه جمالاً ، ومع كل مناسبة ثقافية تتلبسني قناعة أننا خرجنا من رحم ثانوي كثير الضوضاء زهيد الفعالية كما يصف سعد الله ونوس القائل أيضاً (نحن محكومون بالأمل).