كان وكأنه لم يذهب ، وذهب كأنه لم يكن ، بؤر نصوص مُشعة باللافت المُدهش الجريء التحديق في وجه الظلام ، لغة شاعرية تحرّض عقولنا ، وتستمطر تأويلنا ، وتُسكّن مواجعنا ، وتوقظ مشاعرنا من حضن الرتابة ، لنلتفت لسيد البيد يرصد فضاءات فارهة ، ويُبرز مواطن فتنة لا مفكر فيها ، ويملؤنا بمشاهد لا نكتشف ما تستبطنه من معانٍ في زمن صاخب صوته ، سلبي تأثيره ، رئة ثالثة للذائقة النقية غير الملوثة (مجازياً) ؛ ولذا كنتُ أقول لأصدقائي ، في زمن يعيش فيه محمد الثبيتي وطلال مداح لا تقلقوا على توازنكم وتصالحكم مع ذواتكم ، ومازلتُ عند قولي ، ومن جمالية الحديث عن مبدع بحجم مُغرّب القوافل ومتهجي المطر ، أستشعر نقصي من خلال كماله ، وتشوهي مقابل نقائه ، وغطرستي إزاء تواضعه ، وهذا سرّ عظمة الشاعر الراحل المقيم المتمثلة في بساطة الإنسان وعمق الفكرة وبراعة الصورة وفرادة اللغة ، حتى أنه يشعرك أنه قال ما لم ولن يقال من قبل ومن بعد ، حياة فنان عاشها ليس لها إطار محدد منضبط في حركاته وسكناته ، مهما حاولنا محاكاة الثبيتي نصاً وشخصاً، مهما أرقنا من قهوة مرّة مستطابة في عيون السهر، ومهما جررنا أنيناً على وجع الربابة، ومهما تلمسنا طقوسه وقلّدناه فيها ، ستظل مسافة كبيرة تفصل بيننا وبين من كأنه الطفل البريء متسلقاً نوافذ القمر ، أو قل كأنه البحر الطافح بأعراسه ، بل هو جواهرجي ماهر تنزه في نهارين من تراث وحداثة ، فاصطفى الجمال من فراشات الصباح ووجوه عصافيره وموسيقى أنهاره ونسائم أزهاره ووجع البشر ، ثم صاغها منتظمة في لغة من صُلبه تصارع النسيان وتقاوم الجحود وتتصدى لهدم الإنسان. أذكر من حوار طويل معه أنني تجرأتُ وسألته ، أتخاف من الموت؟ فأجاب (أبداً ، أخاف من الأمراض المستعصية فقط ، أما الموت فنهاية حتمية) ، وأردفت ، تُحب الحياة؟ فردّ (بكل تفاصيلها ، وبكل وجعها ، وإن لم تحبها لن تكتب). عاش الكفاف ومات مديناً للبعض ، ودائناً لنا بهذا الإرث الشعري الفخم ويكفي. دعاني صديقي سعيد للكتابة عنه ، فقلت ، سيتهمنا البعض من (الأعدقاء) أننا نلمع أنفسنا بالكتابة عن أبي يوسف في ذكرى رحيله الأولى ، قال يشرّفك بكل أريحية تقبل التهمة ، وإليه أهدي (لم يزل وردك مخضراً .. وأغصانك بالتحنان ترفل ، بيننا أكثر من وجه جمالي .. وتبقى أنت أجمل ، ألفُ ثان جاء من بعدك لكنك أول ، مُدبر صوت القوافي .. وإذا أقبلت يُقبل ، يا مقيماً يا بقايا جدنا الشعري يا تغريد بلبل ، لم تزل فينا فتياً كل أندادك رُحّل ، ضلعنا المكسور لم يجبر ولم نغضب ونسأل ، ما بكيناك كما يبكي محب وبكى درب ومنزل).