كانت صفة العفو والحلم من أشد ما اشتهر به مؤسس الدولة الأموية معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما . وكان يقول: (إني لآنف أن يكون في الأرض جهل لا يسعه حلمي ، وذنب لا يسعه عفوي ، وحاجة لا يسعها جودي) . وقعد ذات ليلة يسترجع وقائع معركة صفين ، فذكروا له امرأة من أهل الكوفة اسمها الزرقاء بنت عدي ، كانت تحرض أصحاب الإمام علي رضي الله عنه ضد جيش معاوية ، وقد حُفظ كلامها من شدة وقعه وأثره . فقال معاوية: فما تشيرون علي فيها ؟ قالوا: نشير بقتلها . فقال لهم معاوية: بئسما أشرتم به، وقبحاً لما قلتم ، أيحسن أن يشتهر عني ، أنني بعدما ظفرت وقدرت قتلت امرأة وفت لصاحبها ، إني إذا للئيم . (لا والله لا فعلت ذلك أبداً) . ثم كتب إلى واليه بالكوفة يأمره بإحضارها مكرمة معززة ، فاستجابت ، فحملها في هودج وأحسن صحبتها ، فلما قدمت على معاوية قال لها: مرحباً وأهلاً خير مقدم قدمه وافد ، كيف حالك يا خالة ؟ ثم قال: هل تعلمين لم بعثت إليك ؟ قالت: لا يعلم الغيب إلا الله سبحانه وتعالى قال: ألست راكبة الجمل الأحمر يوم صفين ، وأنت بين الصفوف توقدين نار الحرب وتحرضين على القتال ؟ ومن جملة ما قلتِ: (صبراً يا معشر المهاجرين والأنصار ، فكأنكم وقد التأم شمل الشتات وظهرت كلمة العدل وغلب الحق باطله فإنه لا يستوي المحق والمبطل ، فالنزال والصبر الصبر . ألا وإن خضاب النساء الحناء، وخضاب الرجال الدماء، والصبر خير الأمور عاقبة ، ائتوا الحرب غير ناكصين ، فهذا يوم له ما بعده). فأقرت بقولها ، وقامت تثني على علي كرّم الله وجهه . فقال لها معاوية: والله لوفاؤكم له بعد موته أعجب من حبكم له حال حياته ، ثم سألها عن حاجتها ، فأبت ، فأصر عليها وأعطاها وكساها وأعادها إلى ديارها مكرمة معززة راضية مطمئنة . ولو أسقط موقف الزرقاء على عصرنا هذا ، لعُدت خائنة عميلة لا جزاء لها إلا الموت ! ولو أسقط موقف معاوية على عصرنا ، لعزّ له مثيل .