منذ الصغر ونحن نسمع بهذا المصطلح (عَصْر السرعة) مع أننا كنا في طفولتنا في القرية نعرف عدد السيارات الموجودة في القبيلة كلّها ، ونعرف أنواعها ، بل ونميِّزها بأصواتها ، وكنا نتنافس في ذلك ، فإذا سمعنا صوت سيارة تحول بيننا وبينها الجبال ، نخمنِّ لمن تكون تلك السيارة ، وربما أجمعنا أحياناً أنها سيارة فلان من قرية كذا إذا سمعنا صوت المنبِّه (البوري) لأن أصحاب السيارات- آنذاك- كانوا يحرصون على تمُّيز سياراتهم بأصوات المنبهِّات ، أو ببعض أشكال الزِّينة التي يتفاوتون فيها كثيراً. نعم، كنا نسمع مصطلح (عصر السُّرعة) مع أن الحياة في القرية كانت تسير بطيئة جدَّاً ، إذا قسناها بالحياة الآن ، فقد كنا نمشي على أرجلنا مسافات طويلة ، وكم من مرة مشيت من القرية (حراء) إلى الباحة حيث كنت أدرس في المعهد العلمي لأن السيارة التي تقلُّنا تتعطل كثيراً ، فكنا نقطع حوالي تسعة كيلو مترات غُدوَّاً ومثلها رواحاً. كان أهلنا يتعجبون من سرعة الحياة المعاصرة ، ولعلهم كانوا يقيسون ذلك الوقت على ما قبله ، حينما لم تكن المنطقة تعرف معنى السيَّارات ، ولم ترها قَطُّ ، وحينما كان الناس يحرثون (بلادهم) بالسانية المكوَّنة من ثورين يجران المحراث ، فيظلون أياماً يحرثون مزارع صغيرة ، صارت تحرثها الحراثات الحديثة التي جاءت إلى القرية في طفولتنا في نصف يوم. تذكَّرت هذا وأنا أتابع كما تتابعون هذه الأحداث التي تتسابق في ميادين الحياة المعاصرة بصورة عجيبة ، فنحن الآن لا نتعجَّب من سرعة وسائل النقل الحديثة التي تجعلنا ننام في وطن ، ونحتسي قهوة الصباح في وطن آخر- كما صورت ذلك في قصيدتي بائعة الرَّيحان- وتجعلنا نجلب الطعام إلى بيوتنا في أية لحظةٍ نريد ، ونأكلُه بعد طبخه في اللحظة نفسها ، وإنما نتعجب من سرعة الأحداث الكبرى التي تتغيَّر بها معالم كثير من البلاد ، وحياة كثير من العباد. إنها علامات آخر الزمان التي وردت في الأحاديث الخاصة بالفتن وأشراط الساعة ، نراها رأي العين ، فقد أخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم عن كثرة (الهَرْج) في آخر الزمان ، وهو القتل ، كما أخبرنا عن الفتن التي يرقِّق بعضُها بعضاً ، فما تكاد تنتهي فتنة حتى تظهر الأخرى صارفة أنظار الناس عن سابقتها ، وأخبرنا - صلى الله عليه وسلم- أنَّ الفتنة تحدث فيقول الناس: هذه ، هذه ، يعني: هذه هي الفتنة الأكبر التي لا نتوقع أن يأتي بعدها مثلها ، فيظن الإنسان أنها هي التي تهلكه ، ولكنَّه يفاجأ بفتنة أخرى تأتي أكبر منها ، وهكذا يراها الناس تتوالى وتتسابق. إنَّه عصر السرعة الحقيقي الذي يكاد الإنسان يعجز عن مواكبة حركته ، وسرعته وأحداثه. كم حدثٍ كبيرٍ وقع في الشهرين الآخيرين ، وكم فتنة اشتعلتْ وكم أحداث وفتن أخرى تتوالى أمام أعيننا؟؟ حتى أصبح المتابع ينسى اليوم ما حدث بالأمس لأن حدثاً جديداً جاء أكبر من سابقه وأعظم. إنَّ الإنسان المسلم لخِليقُ في هذا الخضمِّ أن يستوعب ما يجري ، وأن يزنه بموازين القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة ، وأنْ ينظر بعين المتأمِّل المتدِّبر الذي لا ينخدع بظواهر الأحداث ، منشغلاً بها عن بواطنها، وأنْ يجعل التأني منهجاً في التعامل مع ما يجري ، موقناً بأنَّ هنالك أسباباً ينبغي التوقف عندها ، ومناقشتها ، وعدم الاستعجال في تفسيرها وتأويلها. والإنسان المسلم خَليقٌ - أيضاً- بأن يتعلَّق بالله عز وجلَّ ، ويرجع إليه رجوعاً صادقاً ، فهو سبحانه الملاذ والملجأ ، وهو الذي يمُّن على عباده المؤمنين بالبصيرة والرُّشْد. إنَّه (عصر السُّرعة) في كل شيء ، فلابد أن نكون قادرين على مواكبة واعية رشيدة ، تحول دون التهوُّر ، وتمنع من التخلُّف والتأخُّر. فإن المؤمن - كما أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم- كخامةِ الزَّرْع تُميلها الرِّيح ولا تقتلعها ، والمنافق كشجرة الأَرْز تقتلعها الريح مرَّة واحدة. إشارة: مَسْلَكُ الخير يستقرُّ به الرِّبحُ ودربُ الضلالِ دّرْبُ كسادِ