** بعض الأصوات تصرخ من داخل العمق الاجتماعي! أحيانًا لا نسمعها نحن، ولكنها بالتأكيد صرخة جاءت من بين اللّحم والعظم، أو أنها توسّدت عروق أولئك الذين يعانون، ولا يكاد يشعر بهم أحد!! ولا أشق على (النفس) من أن تعيش تحت حد المقصلة، في حين أن كل ما حولك (براح) يقبر كل مأساتك، فلا يكون لها صوت مسموع، ولا رجع صدى، وبالتالي لن يكون لها مجيب. ** وفي هذا الزمن لا نكاد نسمع أو نستجيب لمن يملأ آذاننا بالصراخ، فما بالكم فيمن لا يصلنا صوته؟ ولن تدري أالعيب فينا؛ لأننا قد فقدنا حاسة السمع، وربما البصر، وربما الخمس حواس كلها؟ أم العيب فيمن صوته جرح قلبه، ولكنه لم يكن في مقدوره أن يجرح أحدًا سواه؟! وأعني ب(الجرح) هنا عندما تقبرك (بولاك)، ولا يساعدك أحد في أن يقبرها معك في التراب!! ** ولو تغلغلتم إلى أدق مفاصل وضعنا الاجتماعي، لرأيتم أن هناك مَن يحمل في صدره كل ألوان قوس قزح.. أشياء معتمة، وأحزان ملونة، ومن تحت الرماد قد يشعرك حرارة الجمر الوقّاد!! ما كل مَن تفتّحت شفتاه ابتهاجًا، ولا كل من أظهر سرورًا مرتاحًا! ** وفي النهاية فإننا نحن جميعًا مطالبون بأن ننكفئ على ذواتنا، وأن نتشاطر همومنا، وأن نتعاون في ذهاب غمومنا. أقول يُفترض أن نكون هكذا، لكن يبدو أن رياح التغيير في هذا الزمن المتغيّر قد أتت عل كل شيء، ولم تسلم في البدء منه إنسانياتنا! غاب التعاطف، والتكافل، والتراحم، وأصبحت (الفردية) وحدها هي مَن تحاول أن تعيش: فنفسي نفسي .. ومن بعدي الطوفان!! ورغم أن الفردية المترمدة لا يحمدها أحد، إلاَّ أنك أحيانًا قد تخرجها من دائرة يومك، وبالذات عندما تتكاثر الضغوط، ويزداد الإحباط، ويتحوّل الإنسان في الزمن الصعب إلى قطعة ثلج معرضة إلى الانكسار والتشطّر!! ** مناسبة هذا الكلام رسالة جاءتني من مواطنة تتحدّث هي عن مشكلة قد تعاني منها بعض الأسر في مكة، وهي مشكلة أزمة السكن الموسمي!! أغلب العمائر في مكةالمكرمة -حرسها الله- مقفلة طيلة أيام السنة، ولا تفتح أبوابها إلاَّ في موسم الحج. العائلات تبحث عن سكن فلا تجد، وأحيانًا بعبارة أدق عن سكن معقول (ماليًا) فتجد أن تلك الأبواب المغلقة خلفها الحل! الإيجار معقول جدًا! لكن المعاناة المسكونة خلف الأبواب هي أن على كل ساكني تلك العمائر إخلاءها قبل الحج بشهرين. وهنا تبدأ المشكلة، أو مشكلة أختنا المواطنة التي تقول بأنها مشكلات المئات، بل الآلاف من العائلات! أين نذهب؟؟ هذا هو السؤال الذي طرحته السيدة! تقول: ذهبنا إلى كل مكان، وبحثنا في كل زاوية علّنا نجد مسكنًا طيلة أيام الحج.. فلم نجد. العمائر كلها مستنفرة لإيجارات الحج. تشرح معاناتها بصورة تشريحية رائعة، (غادرنا شققنا وبيوتنا ليسكنها الحجاج والمعتمرون، أما نحن.. فأين نسكن؟ وأين نقيم بأبنائنا وبناتنا؟ فهذا لا شأن لأحد فيه.. شهرين ونحن في عذاب حقيقي.. تقول هذه السيدة إنها فكّرت في أن تنصب خيمة على الرصيف كي تقيم فيها هي وأسرتها (الستة أشخاص) فترة الحج.. وأضافت مازحة -وشر البلية ما يضحك- أخشى لو الكل خاطرته ذات الفكرة، فستتحوّل أرصفة مكةالمكرمة إلى مخيمات، وكأن الخيام ستتصل ما بين منى ومكة. هذه السيدة تقول بأنها تراجعت عن فكرتها بسبب أن لديها بنات فقط، تخشى عليهنّ من حياة الرصيف، أمّا غير ذلك فلا شيء أمامها، وحين تتعقّد الحياة يصبح الطريق الصعب من خياراتنا!! ** المشكلة أن هذه المواطنة كما تقول إنها تقارع مشكلة، وتعيش أزمة، وفي داخل الجدران مأساة صعبة لا يعلمها إلاَّ الله وحده، أهونها أنها امرأة مستورة الحال، تعيش على فعل أهل الخير!! ** تخيّلوا امرأة أحوالها متعبة، ونُدخلها في أتون حياة أكثر تعبًا، ثم نُلقيها في اليم ونقول لها: إيّاك أن تبتلّي!! ** في مكةالمكرمة السكن الموسمي يشكّل أزمة وعلى الجهات المختصة أن يفكروا في الحلول البديلة والسريعة!! فعلاً أغلب العمائر أبوابها مغلقة، وحين يجبرون الناس على سكناها في ظل أزمة السكن الطاحنة يجدون أنفسهم ما بين خيارين أحلاهما أن يجد مكانًا على الرصيف المقابل!! هذه مشكلة، وتظل مشكلة هذه السيدة المطحونة والمقهورة متروكة لمن تحرّكه جذوة خير، وما أكثرهم في هذا البلد!! خاتمة: داخل الجسد الواحد يمكنك أن تسمع الصوت، وتستشعر المعاناة!!