عندما يعاني الأفراد من عقدة النقص أمام الآخرين، هذه المعاناة التي تأتي بسبب عدم قناعة المرء بما لديه، وتطلعه إلى ما يمتلكه الآخرون من صفات أو إمكانيات سواء معنوية أو مادية غير موجودة فيه أو يستحيل وجودها، فماذا يحدث؟ واحد من أمرين إما أن يحاول الشخص تطوير ذاته عن طريق الحصول على مؤهلات ترفع من مستواه وتحقق ذاته. وهذه المؤهلات تكون في شكل التميز العلمي والعملي، أو حضور دورات تدريبية لتطوير المهارات الشخصية والتواصلية، أو حتى زيارة طبيب نفسي لعلاج الشعور بالنقص. كل من هذا أو ذاك أمر إيجابي. أما الأمر الثاني السلبي فهو أن يلجأ إلى التنفيس عن عقدة النقص من خلال الشعور بالاضطهاد، مما يؤدي به إلى السلوك العدواني تجاه الآخر الذي يذكره بنقصه. ما دعاني للحديث عن هذا الموضوع هو تفشي هذه الظاهرة في مجتمعنا، بحيث ظهر أثرها فادحا، ليس فقط على مستوى الأفراد الذين فقدوا فرصا كثيرة لتحقيق حياة أفضل، بل على مستوى المؤسسات، التي أخذت تنحدر من سيئ إلى أسوأ. فمع تعقد البنية المدنية والاجتماعية بمضي الزمن، تتضخم دائرة العجز الإنتاجي الذي تقف وراءه تراكمات مشاكل الفساد الإداري التي تم تجاهلها وإهمالها. تحتاج هذه المؤسسات بأدوارها الجديدة المسايرة لعجلة التنمية، تحتاج إلى أن ينشغل الجميع بتطوير قدراتهم وتجديد دمائهم ليؤدوا ما في ذمتهم لهذا الوطن، وبدلا من ذلك ينشغل الكثيرون عن تطوير أنفسهم بمحاصرة نجاحات الآخرين، وليس ذنب هؤلاء إلا أنهم نالوا عن غير قصد إعجاب تلك النفوس المثقلة بأمراضها. وكان الأجدى أن نقول لهؤلاء المبتلين ما قاله حكيم الشعراء: وإذا أتتك مذمتي من ناقص=فهي الشهادة لي بأني كامل أو : إذا نطق السفيه فلا تجبه ...... وكنا لنقول هذا لو كنا في الزمن الصحيح، حيث غاية ما يحققه المريض بعقدة النقص التنفيس عن نفسه بترديد الكلام، لكننا في زمن تطورت فيه إمكانات المريض بهذه العقدة إلى المضي خطوات أبعد في التنفيس عن عقده، فهو لن يرضى ما وسعه الأمر بأقل من تدمير كل ما يذكره بنقصه، وهو قادر على ذلك في مرحلة فساد إداري متراكم مليء بالثغرات التي تتشخصن فيها العقد وتشغل مراكز حيوية في إدارة مؤسساتنا من كبراها إلى أصغرها، ليس أقلها المؤسسة التي تتكون من زوج وزوجة يشعر أحدهما بالنقص أمام الآخر، فهل سيصبح غاية طموح الواحد منا أن يحافظ على نفسه في وضع غير مرئي تماما لكي يستطيع الحصول على وظيفة أو ترقية بسيطة؟ وهل سيجيء اليوم الذي نستعيذ فيه من شر التميز؟ إن أفظع ما تجره هذه الظاهرة على مجتمعنا هو دورها الكبير في إقصاء أصحاب الكفاءات والقدرات من مراكز التأثير، وحرمانهم حتى أبسط فرص الإنتاج، وليست البطالة المقنعة التي تذهب بكل طاقاتنا المادية والمعنوية لفراغ مظلم، ليست سوى نتيجة إقصاء الكفاءات وإحلال العاطلين إنتاجيا محلهم، فهؤلاء لا يشكلون أي تحدٍّ لمن يخشى أي قدر من المنافسة، والاختبار الحقيقي للقدرات. ولننظر من حولنا، كم عدد الذين يشغلون مناصب قيادية ومراكز تخطيط من المبتكرين والمميزين وأصحاب الجوائز العلمية والكفاءات الموثقة بأعمال في بلدنا؟ وذلك مقارنة بعددهم في الواقع العملي، حيث يعملون في الظل، في هدر متواصل لثروة هذه البلاد ومقدراتها. عقدة النقص Inferiority complex ، بحسب التعريف العلمي لها: «هي استعداد لا شعوري مكبوت ، أي أن الشخص لا يفطن إلى وجوده. وينشأ من تعرض الشخص لمواقف كثيرة متكررة تشعره بالعجز وقلة الحيلة والفشل، ومتى ما اشتدت وطأة هذا الشعور على الشخص مال إلى كبته، أي إلى إنكار وجوده، بل وإلى عدم الاعتراف بما لديه من عيوب فعلية، غير أن كل ما يذكره بالنقص يحمله بتلقائية على الدفاع عن نفسه بطرق عدوانية.» ومثل هذا الشعور إذا تمكن من الفرد فإنه يكون نقمة عليه تجعله لا ينعم بسكينة النفس التي من حقه أن ينعم بها فهو يبذل جهدها متواصلا للتعويض عن نقصه سواء كان حقيقيا أم توهما ...!!! هو مرض إذن، وعلة لا يد للمرء في نشأتها - أعان الله من ابتلي بها - لكن له اليد كل اليد في تركها تعبث بمستقبله ومستقبل الآخرين. ولعل ركنا صغيرا في كل إدارة، يشغله اختصاصي نفسي متمرس في التعامل مع هذه العقدة سيكون حلا عمليا بسيطا، إن لم يكن ليذكر المرضى بتدارك أنفسهم، فليواس الضحايا بلمسة حنان في طريقهم نحو الهاوية. واللهم سلّم.