لا أعرف دولة في العالم تخلق أعداءها مثل ما تفعل الولاياتالمتحدةالأمريكية؛ كأنها لا تستطيع البقاء بدون (عدو) تنشغل به على المستويين الرسمي والشعبي. وقد يكون ذلك من باب الإرث التاريخي أو من باب طبيعة الشخصية الأمريكية أو من باب ارتباط عجلة الحياة والاقتصاد هناك بالعداوات. في كل مكان زرعت أمريكا أعداء أكثر بكثير مما زرعت أصدقاء. وليس هناك في هذا العالم من ليس له ثأر قديم أو حديث مع الأمريكان، حتى أولئك الذين استسلموا للإرادة الأمريكية العظمى بعد الحرب العالمية الثانية، في ألمانيا واليابان، ما زالت أمريكا، على لسان دونالد ترامب في مناظرته الأولى مع هيلاري كلينتون، تستفزهم وتطالبهم بتسديد ثمن أتعابها في حمايتهم أو الدفاع عنهم. دول كثيرة خطبت وما زالت تخطب ود أمريكا وصداقتها لكنها غير معنية بكثرة هذه الدول وتوددها بقدر ما هي معنية بتصعيد عداوتها معها على المستويين الرسمي والشعبي. وفي كل مرة تخبو واحدة من هذه العداوات في مكان ما يعود الأمريكان وينفخون في الرماد ليشتعل سعير هذه العداوة من جديد، إلى درجة أنني بدأت أشك في أن التحركات الأمريكية تتم دائما على أساس تحقيق مصالح أمريكا العليا بغض النظر عن التحالفات والصداقات. مصالح أمريكا مع الدول العربية في الشرق الأوسط، بما فيها أمن إسرائيل، متحقق سلفا قبل اختراع خارطة الفوضى الخلاقة وقبل الثورات العربية التي أطاحت بعدد من أنظمة هذه البلدان، فما هي المصالح التي حققتها أكثر من مصالحها السابقة بعد تحول هذه الدول إلى دول فاشلة.؟! مصالح أمريكا، أيضا، مع دولة مثل المملكة متحققة على أعلى مستوى منذ سنة 1932 حين بدأت طلائع مستكشفي النفط الأمريكان تصل إلى المملكة وبدأت أمريكا تأخذ مكان بريطانيا في المملكة والمنطقة باعتبارها الحليف الأول والأكبر. المملكة تعاونت كذلك على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري والاستخباراتي مع أمريكا إلى درجة أن قادة أجهزة سيادية أمريكية قدموا علناً، في مراحل مختلفة، امتنانهم لها اعترافا وتقديرا منهم لأهمية وحجم هذا التعاون. في الوجدان الشعبي السعودي لأمريكا مكانة خاصة باعتبارها مكتشفة النفط والشريك الأكبر في التنمية وبناء المشاريع الضخمة، والجهة المفضلة لمئات الآلاف من الطلبة السعوديين الذين يستكملون دراساتهم الجامعية هناك، فضلا عن العديد من التبادلات العلمية والثقافية والصداقات الطويلة التي تجمع أمريكيين وسعوديين بحكم الارتباط والتحالف التاريخي الطويل بين البلدين. بالرغم من ذلك، أي بالرغم من المصالح المتحققة بين الدولتين التي لم تنقطع على مدى سبعة عقود، وبالرغم من رغبة المملكة الدائمة بالمحافظة على تحالفها مع أمريكا بنفس القوة السابقة، وبالرغم من المكانة الخاصة لأمريكا لدى السعوديين على المستوى الشعبي. كل ذلك تتجاهله أمريكا وتدق مسمارا هائلا في نعش علاقتها مع المملكة وتثير عداوة السعوديين لها بعد إقرار الكونجرس لقانون (جاستا) الذي يُحمل كل السعوديين مسؤولية وثمن هجوم إرهابيين قبل خمس عشرة سنة على مركز التجارة العالمي في نيويورك؛ مع أن الأمريكان يعلمون تمام العلم أن أقران هؤلاء الإرهابيين هجموا على المملكة ذاتها ونفذوا عمليات إرهابية في مدنها.!! نتجية ذلك أنه لا يمكن فهم التصعيد الأمريكي بإقرار هذا القانون المعيب سوى أن هناك رغبة أمريكية بخلق عداوات مع المملكة وشعبها ومع شعوب دول الخليج كافة. على الأقل هذا ما بدا واضحا من ردود الفعل الشعبية السعودية والخليجية التي لا يمكنها حمل قانون (جاستا) على غير هذا المحمل، ولا يمكنها أن تجد تفسيرا له سوى الرغبة الأمريكية بخلق عداوة جديدة في المنطقة. [email protected]