أولاً.. نبارك للشعب التركي الشقيق ورئيسه السيد رجب طيب أردوغان، بعودة الأمور إلى نصابها واستتباب الأمن والاستقرار، واستمرار الحكومة التركية في ممارسة أعمالها بشكل طبيعي بعد فشل المحاولة الانقلابية، التي رفضها الشعب التركي والمجتمع الدولي، أما عدا ذلك من إجراءات احترازية اتخذتها الحكومة التركية، سواء قيام أجهزتها الأمنية باعتقال الانقلابيين أو إيقاف كل من تعتقد أن له علاقة بهذا الانقلاب الفاشل، وتطهير أجهزة الدولة من «الكيان الموازي» وتصنيفه كتنظيم إرهابي، بالإضافة إلى مسألة إعادة إقرار عقوبة الإعدام بعد 13 عاماً من إلغائها رسمياً رغبة في التوافق مع متطلبات الاتحاد الأوروبي، فكل هذه الأمور هي شأن تركي خاص، ويحق لتركيا كجمهورية ديمقراطية ذات سيادة وتحترم الأنظمة الدولية، وباعتبارها طرفا فاعلا في المجتمع الدولي من خلال عضويتها في منظمات دولية مثل مجلس أوروبا وحلف الأطلسي ومجموعة العشرين وغيرها، أن تتخذ ما تراه مناسباً لضمان أمنها واستقرارها. ولكن ما أتعجب منه حقاً، هو ردود الفعل بعد فشل الانقلاب بالتطبيل المبالغ على وسائل التواصل الاجتماعي، لشخص السيد أردوغان وحزب التنمية والعدالة، ومدحه وتمجيده بأوصاف تفوق الواقع والحقيقة، من قبل بعض أبناء جلدتنا من المنتمين أو المتعاطفين مع تيارات الإخوان المسلمين والسرورية، واحتفى هؤلاء «المتأتركون» بالزعيم التركي وأظهروه وفقاً لمبالغتهم المفرطة وقناعاتهم الوهمية بأنه خليفة المسلمين في الأرض صاحب الفضيلة والحاكم بأمر الله الإمبراطور العثماني السلطان رجب الطيب أردوغان. وهؤلاء خلقوا هذه القناعات عن شخص السيد أردوغان، الذي نكن له الاحترام والتقدير، بناء على آراء شخصية وخطابات قديمة ألقاها إبان فترة عضويته في حزب الرفاه الإسلامي الذي أسسه رئيس الوزراء التركي السابق نجم الدين أربكان في الثمانينات، ولكن هذا الحزب حظر نظامياً عام 98م بسبب انتهاك هويته الإسلامية للدستور العلماني للبلاد، وأردوغان تعلم من تجاربه وأدرك أن بقاءه في المسار السياسي يتطلب احترام سياسة الدولة العلمانية، لذلك انشق عن حزب الفضيلة الإسلامي أواخر التسعينات وشارك في تأسيس حزب التنمية والعدالة عام 2001، ومنذ ذلك الحين دفع عن نفسه أي شبهات حول علاقة حزبه بالتيارات الإسلاموية التي تتعارض مع دستور البلاد، موضحاً: «سنتبع سياسة واضحة ونشطة من أجل الوصول إلى الهدف الذي رسمه أتاتورك لإقامة المجتمع المتحضر والمعاصر في إطار القيم الإسلامية». وعقب ثورة 25 يناير في مصر قال الرئيس أردوغان في حوار مع الإعلامية منى الشاذلي إنه رئيس وزراء دولة «علمانية»، موضحاً أن الدولة العلمانية وفقاً للدستور التركي معناها وقوف الدولة على مسافة متساوية من جميع الأديان. وفي حوار آخر أجراه معه الإعلامي محمد كريشان على قناة الجزيرة في سبتمبر 2011، قال أردوغان: «تركيا الآن أحد اللاعبين الهامين في الساحة العالمية، لقد وصلنا لأهدافنا هذه من خلال الدولة العادلة العلمانية الحقوقية الاجتماعية»، وفي أبريل الماضي، استفز رئيس مجلس الأمة التركي إسماعيل كهرمان المسؤولين في تركيا بقوله إن الدستور يجب أن يكون «دينياً»، فرد عليه الرئيس أردوغان، قائلاً: «العلمانية ستبقى دائماً أحد أهم المبادئ التي قامت عليها الجمهورية التركية، والتي يسعى حزب العدالة والتنمية إلى المحافظة عليها»، واعتبر أن ما قاله كهرمان لا يتعدى كونه أمراً شخصياً وتعبيراً عن رأيه فقط ولا يمثل توجّه حزب العدالة والتنمية. وفي أواخر أبريل الماضي، وجه مستشار رئيس الوزراء التركي الدكتور عمر الفاروق كوركماز لشؤون العالم العربي، خلال لقاء على إحدى الفضائيات، رسالة شديدة اللهجة إلى العرب المقيمين في تركيا وخاصة المنتمين أو المتأثرين بفكر الإخوان المسلمين، حيث قال «من أراد ان يساعد أو يخدم المصالح التركية من إخوتنا العرب فأتمنى ألا يتجاوزوا سياسة حزب العدالة والتنمية، هناك نعرات وشعارات، أكثر بكثير من حجم تركيا عند إخوتنا العرب، وبالتالي هذا يجعل بعض الأصدقاء الغربيين، يخافون من تركيا أكثر من اللزوم»، مضيفاً أن المشروع الذي ينادي به هؤلاء، قد فشل وأفشل المشروع الديمقراطي في بلادهم، والآن لا نريدهم أن يفشلوا الديمقراطية في تركيا. وجاءت تصريحات كوركماز الملتهبة على خلفية ما حدث في مهرجان «شكراً تركيا» الذي نظمته في ذلك الوقت جمعيات عربية تقيم في تركيا، كرسالة شكر منهم إلى الشعب والحكومة التركية على مواقفها الداعمة للعرب، وحضر حينها قيادات من جماعة الإخوان والمحسوبين عليها من مختلف الدول بما في ذلك بعض السعوديين، وأطلقوا يومها عددا من التصريحات والكلمات الرنانة حول إسلامية تركيا، وسلطان المسلمين أردوغان، وأنها عاصمة الخلافة، وهو ما أفزع المسؤولين في حزب الرئيس أردوغان، الذي يسعى للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والمحافظة على هويته العلمانية المنفتحة على جميع الأديان السماوية وتحقيق مفاهيم العولمة، حيث لا يوجد دين رسمي للدولة. للأسف هؤلاء «المتأتركين» المحسوبين علينا، يحرجوننا بعدم استيعابهم الرسائل الواضحة والمباشرة التي يوجهها إليهم كبار المسؤولين في تركيا حول سياسة حزب العدالة والتنمية، ويخجلوننا بقصور فهمهم لدستور تركيا، خصوصاً «العلمانية» التي تأتي في مضمون المواد الثلاث الأولى من الدستور التركي ولا يقبل المساس بها طبقاً للمادة الرابعة من الدستور، وقبل كل هذا يسيئون لأنفسهم بهذا الاهتمام المبالغ بتركيا وتضخيم صورة الرئيس أردوغان والدفاع عنه بما يفوق الاهتمام بأوطانهم، بالرغم أن المواطن والشارع التركي الذي رفض الانقلاب بكل أطيافه وفئاته وأحزابه اكتفى برفع العلم الوطني والدفاع عن ديمقراطيته وعلمانيته وشرعية من انتخبه عبر صناديق الاقتراع.. فعلى ماذا يزايدون؟!