على عهد الشريف عون الرفيق باشا في مكة تولى الاحتساب في أسواقها شخص مكي السمت واللهجة، تركي الأرومة، اسمه القيصرلي، كان يطوف أسواق مكة على بغلته وحوله جلاوزة أربعة. يروي الأديب أحمد الغزاوي الذي أدرك القيصرلي، أنه حينما كان يقبل على بغلته في الأسواق كان أهل المنطقة يتراكضون فزعا من بطشه. في القرن التاسع عشر، كان رجال الباشبوزوق، أو متعصبو الدرك، يطوفون أسواق جدة ووكالاتها لفرض السيطرة بأساليب ترويعية باطشة. كان رجل الباشبوزوق إذا رأى امرأة غير منقبة في الطرقات أشهر مسدسه على رأسها ترويعا، وفي حالات رصدها رحالة، كان يرديها بالفعل قتيلة بدماء باردة، ثم يمضي يفرك شنبه. وكان رئيس فرقة الباشبوزوق في جدة في حدود 1854 القائد كرد عثمان أغا، وهو رجل مفتول العضلات كهرقل، عرف ورجاله بالصلافة والغلاظة في الجباية والضبط وفرض الإتاوات. والباشبوزوق هم خيالة أو عسكر ترك أو ألبان غير نظاميين في الحجاز وغيره من أقاليم الفضاء الخاضع للسيطرة العثمانية - يرتدون سترات حمراء فاقعة وسراويل خضراء منتفخة، وهم معفيون من لباس الجيش النظامي الذي فرضه السلطان محمود. دائما كان رجال الباشبوزوق يواجهون اعتراضات الأهالي وسخطهم، بابتزازهم المجتمع وتذكيرهم بأنهم هم حراس المحمل الشريف في رحلته المقدسة إلى مكة. فهم من «يحافظ على الأمن في واحات أسيوط، يحرس المحمل، يحفظ الأمن في السودان ويجبي الضرائب». وعلى عهد التنظيمات العثماني كان يطلق على شاغل منصب إدارة البلدية لقب المحتسِب. شغل عبدالله أغا فران.. منصب المحتسب في جدة في النصف الأول من القرن التاسع عشر، في حضور صاخب. وكان محتسب جدة، ثاني أكبر منصب رسمي بعد القائمقام في المدينة، وهو بمثابة الشرطة المحلية، وجابي ضرائب السوق. لكن عبدالله المحتسب أدار وظيفته النظامية، بشيء من الفتوة والاستعراض العصباني على طريقة «العيارين» في المدن العربية. كان أقرب إلى نموذج فولكلوري يمارس نفوذا على الشارع، يلف نفسه برجال الخفر في جولاته على منشآت الميناء والسوق والمقاهي. عبدالله المحتسب، من أصول فلاحية من مصر العليا (جنوب الدلتا)، بدأ حياته في جدة كفران وبائع للعيش ثم ارتقى سلمه الوظيفي إلى مرتبة المحتسب ومدير الشرطة المحلية. أقيل من منصبه في 1855، ونفي إلى مصوع لتورطه في اندلاع فتنة إلغاء العبيد، إذ حرك مع مجموعة من دلالي العبيد وكبار ملاكهم من التجار.. كبار الأهالي والعشائر للاعتراض ضد القرار في مكةوجدة وبادية الحجاز. نفاه والي الحجاز كامل باشا إلى مصوع، لكن القائد محمود باشا الكردي الذي أعقبه، أعفى عنه وأعاده إلى منصبه كمحتسب جدة في أكتوبر 1856. كان مناوئا للإنجليز، ولرعاياهم التجار الهنود المقيمين في جدة، ويحمل ضدهم ضغينة سياسية، عبّر عنها في إطار عقائدي يستميل الشارع ويحرك غرائزه لمخاشنة «الكفار» وإيقاف فعالياتهم. وفي سنوات التوتر الطائفي في جدة، إثر اندلاع انتفاضة الهند في 1857 ضد الإنجليز وقيادات شركة الهندالشرقية.. ومع ازدياد المصالح التجارية الأوروبية في البحر الأحمر، وتقلص امتيازات المحليين.. تبنى المحتسب، ورجاله، نزعة وطنية فاشية انتهت بالحادثة الدموية المعروفة في إبادة القناصل والأجانب وأفراد الجالية اليونانية ومسيحيي بغداد المستوطنين في جدة في يونيو 1858. وترتب عليها قصف جدة بالبارجات البحرية.. وجرت على المدينة تحقيقات دولية، انتهت بإعدام المحتسب في ساحة جامع الباشا بجدة في الثاني عشر من يناير 1859، بعد أن دمغ بسلوكه حقبة من تاريخ المدينة الحديث. جلبت حركة الاتحاد والترقي أفكارا حديثة إلى الأمصار العربية.. لكنها كانت فوقية ومتعسفة فلم تجد طريقها إلى التيار العام. وعرفت مكة نمطا جديدا متطورا من التنظيم البلدي.. بعيد الثورة العربية.. لكن البنية الفرقية كانت لا تزال ما قبل مدنية. ومثل الباشبوزوق، كان العمد في الحارات، وقبائل الطريق التي تفرض الخوة.. وباقي الزمر العصبانية، والتكتلات البشرية، ما قبل المدنية، تطبع بأخلاقها التجزيئية شكل الحياة العامة. بعد دخول جيش الإخوان إلى مكة، فرض السلطان عبدالعزيز، المصري حافظ وهبة، حاكما مدنيا على البلدة، فيما كرس أولى زياراته في مكة إلى مدارس الفلاح النظامية، وزار طلابها، وأمر بصرف مكافآت مالية سخية لها، ترسيخا لسياساته المدنية. لكن الممارسات الاحتسابية، تحت غطاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كانت قد اندلعت بعيد تلك التواريخ.. ثم نالت أولى لحظاتها المؤسساتية بعد أن أصبح التخلف عن الصلاة، وشرب الدخان، وحلق اللحى، ممارسات يعاقب عليها القانون بالغرامة أو السجن، أو بكليهما. في نهاية العشرينات الميلادية خفتت الممارسات الاحتسابية.. حتى لقد كانت شيئا من الماضي.. لكن أزمة الكساد العظيم، بعثتها من قمقمها من جديد. أراد السياسي تمرير مشاريعه التحديثية العاجلة في تأسيس شبكة اللاسلكي بين المدن، والمضي في برامج خلق برجوازية وطنية كما في مشروع توطين البدو في الهجر والدساكر.. فقام بالتنازل إزاء مطالب علماء الدعوة السلفية، في الأمر بالمعروف، فكانت أول أشكال التنظيم البيروقراطي للهيئات في مكة. وعلى غرار حركات القمصان البنية في ألمانيا، والقمصان السوداء في إيطاليا.. ارتفع عدد منسوبي الهيئة في مكة إلى عشرين مطوعا في كل حارة. ومع أغسطس 1931، امتلأ سجن الفرن بمكة ومبنى الأمن العام بالحميدية بالشبان حالقي اللحى. تأرجحت الممارسات الاحتسابية النظامية بعد ذلك صعودا وخفوتا.. حتى نالت بعثها التأسيسي الثاني مع اتفاقيات تشكيل البيروقراطيا الحكومية الحديثة في مطلع الستينات.. ومع إعلان الدخول في عصر الريع. وفيما نحن نخرج من عصر الريع.. لا يبدو غريبا.. تفكك منظومته وتبدل خارطة قواه.. بإزاحة الجهات التي كونت تركيبته السابقة مقابل صعود جهات اجتماعية جديدة، تعبر عن تركيبة أكثر حيوية. لا يأتي التنظيم الجديد لهيئة الأمر بالمعروف كثورة مضادة، إذ هو تطور طبيعي للمجتمعات من داخلها. ولا يأتي كتعسف فوقي، إذ هو إسراع في الاتجاهات الجديدة من داخل تيار السلفية الرسمي نفسه.