من أبرز ما استوقفني في رؤية المملكة 2030 هو الجزء الخاص بالترفيه، حيث كان من اللافت جدا الحرص على تضمينه في رؤيتنا الوطنية؛ بعد سنوات طويلة من إهماله، لذلك لم يكن غريبا أن تصبح مبادرة الترفيه هي إحدى أكثر المبادرات التي جذبت اهتمام المواطنين، لأن الترفيه من أهم أسباب سعادة الناس ومن أكثر ما تجاهلناه في الماضي!، وربما هذا هو ما يفسر غياب هذا البُعد عن الخطاب الرسمي طوال ثلاثة عقود؛ سيطر فيها (فكر) ما بات يُعرف بالصحوة، على مفاصل كثيرة في البلاد، وحوّل الحياة الاجتماعية والنفسية للكثيرين إلى (غفوة) طويلة ومملة؛ لم يفق منها بعض رموزها وناشطيها ومؤيديهم حتى اليوم!. لذلك فقد كنت أترقب مقابلة سمو ولي ولي العهد مع قناة العربية؛ آملا أن يقوم محاوره الماهر تركي الدخيل بسؤال ضيفه الاستثنائي عن الترفيه، ولم يطل انتظاري حيث كان السؤال: ماذا تريدون أن تقدموا للشعب في موضوع الترفيه؟، وكان جواب الأمير محمد بن سلمان «.. المشكلة أنه لا توجد الأدوات التي يستطيع السعودي أن ينفق فيها بعض دخله بشكل ينعكس على رفاهيته في الحياة؛ بخلاف دول أخرى أقل منا بكثير في مستوى الدخل..)، مضيفا أن «الترفيه والثقافة يشكلان رافدين مهمين جدا لتغيير مستوى معيشة الناس في فترة قصيرة». الإجابة السابقة عكست فهما عميقا للموضوع، ورسمت الفرح على الوجوه، كما كشفت جانبا مهما في فكر وشخصية الأمير الشاب هو واقعيته وإدراكه لما يريده مواطنوه (الطبيعيون والأسوياء)؛ ليس فقط عندما يتعلق الأمر باقتصاد بلادهم، وصحتهم، وتعليم أبنائهم، وإسكانهم، وتوظيفهم، وإنما أيضا لما يؤدي لإسعادهم، والسعي لتلبية تطلعاتهم لأن يعيشوا حياة طبيعية -مثل غالبية شعوب العالم- حياة يستطيعون فيها أن يستمتعوا بالمباهج المشروعة للحياة؛ دون أن يتم التشكيك في عقيدتهم، أو الانتقاص من نخوتهم، أو اتهامهم بنقائص ليست فيهم. ولأننا حرمنا منه طويلا فإن، مفهوم (غالبيتنا) للترفيه يكاد ينحصر في مجرد حفلة غنائية (ممنوعة) بعد أن كانت مسموحة لدينا، أو صالة عرض سينمائي (محظورة) بعد أن كانت موجودة في مدننا، أو حتى مهرجانات تسويقية واستعراضات فنية، نوقفها حينا بدعوى منع الاختلاط (المبتدع)، وأحيانا أخرى لسد باب الذرائع، في حين أن الترفيه هو حاجة إنسانية، لها تأصيلها الديني، وتنبع من حاجة الإنسان (السوي) لتجديد نشاطه وحفز طاقاته، من خلال فعاليات تكسر الروتين الممل، وتشعر الناس ببعض الجوانب المبهجة في الحياة؛ بدون وصاية فكرية أو أدلجة مقيتة، (تفترض) دائما أنها الأدرى بما يحتاجه المواطنون!. وبالإضافة لآثاره الإيجابية؛ اجتماعيا وصحيا وثقافيا، فإن للترفيه أبعاده الاقتصادية الهامة، باعتباره إحدى الصناعات الضخمة التي تنطوي على استثمارات هائلة؛ وتكفي الإشارة إلى أن عائدات هذه الصناعة عالميا بلغت نحو 6,4 ترليون ريال عام 2014، فضلا عن كونها تخلق مئات الآلاف من فرص العمل للمواطنين، وتستوعب جانبا كبيرا من طاقات الشباب، وتسهم في إبعادهم عن مواطن الخطر الفكري والسلوكي، وتتيح متنفسا للأفراد والأسر، لذلك فليس غريبا اعتماد اقتصادات بلدان كثيرة على دخل الترفيه؛ الذي لا يمكن اعتباره مدعاة للفساد الأخلاقي!، أو مجرد لهو تشجعه الدول، ويقبِل عليه الناس. إحصائيا ومعلوماتيا، فإن محدودية منافذ الترفيه محليا هو أحد أسباب إنفاق السياح السعوديين خلال عام 2015 على رحلاتهم السياحية للخارج نحو 96.2 مليار ريال، في حين تشير إحصاءات منظمة السياحة العالمية إلى أن عدد السعوديين المغادرين سنويا للسياحة الخارجية يبلغ نحو خمسة ملايين مواطن؛ وهذا يعادل نحو ربع عدد السعوديين!، كما بلغ حجم مساهمة القطاع السياحي في الناتج الإجمالي السعودي نحو 80,1 مليار ريال عام 2015، ومن المتوقع أن يرتفع إلى120 مليار ريال في عام 2020، وأن يصل عدد الوظائف المباشرة في قطاع السياحة لحوالي مليون وظيفة، في حين يساهم هذا القطاع بما نسبته 3 % من الناتج المحلي الإجمالي للمملكة، ونحو 5,5 % من ناتج القطاع غير النفطي. الأرقام السابقة برأيي تعكس أمرا في غاية الأهمية؛ هو شح المقومات الترفيهية المحلية الجاذبة، الأمر الذي يدفع بنحو25 % من المواطنين إلى البحث عن وجهات خارجية لقضاء العطلات، يحدث ذلك في الوقت الذي بمقدورنا توفير نسبة كبيرة من مبالغ إنفاق السعوديين في الخارج، وإعادة توجيهها نحو السياحة المحلية؛ فقط لو قررنا بناء بنية ترفيهية صلبة ومتنوعة ومقنعة، ولكن قبل ذلك هناك بضعة أسئلة مهمة ينبغي أن نجيب عليها ومنها: 1 ما هو الترفيه الذي يبحث عنه غالبية السياح السعوديين في الخارج ولا يجدونه في الداخل؟، وهل ستتمكن هيئة الترفيه من توفيره لهم محليا؟. 2 متى سنبادر لتوفير خيارات ترفيه (عادية ومقبولة في جميع دول العالم)؛ تلبي رغبات نسبة كبيرة من السكان؟ ولا تصطدم مع قيمنا وعادتنا. 3 كيف سنحل ازدواجية غض الطرف عن تنظيم الفنانين السعوديين لحفلاتهم الغنائية في الخارج، أو التغاضي عن قيام بعض كبار مستثمرينا ببث مواد ترفيهية؛ غنائية وفيلمية طوال اليوم وعلى مدار العام؛ عبر قنواتهم الفضائية، في الوقت الذي نرفض لهم فيه السماح بإنشاء دور للسينما والعروض المسرحية في البلاد؟!. 4 ماهي المنافع والأضرار التي يمكن أن تترتب على السماح بتدريس الفنون الموسيقية والمسرحية بأنواعها، أو إقامة أنشطة ترفيه (نمطية) كالسيمنا والمسرح والحفلات الغنائية؟. إجابتنا (الصادقة) هي ما سيحدد المساحة التي ستتحرك فيها هيئتنا العامة الوليدة للترفيه، وربما ستخبرنا عن فرص نجاحها في أداء مهمتها الصعبة.. السهلة!، وعلينا أن نتذكر دائما أن إسعاد المواطنين هو أحد مؤشرات نجاح الحكومات. [email protected]