كثيراً ما يسبب سلوك الدول المتمثل في حركة سياستها الخارجية الحيرة ويثير التساؤل، لدرجة -في أحيانٍ كثيرة- مجافاة المنطق والبعد عن العقلانية في تفسير وتبرير تلك السلوكيات وحساب عواقبها. يُفترض اعتبار سلوك الدول ناتجا عن تدبر عقلاني، يوازن بين المنافع والأضرار، مع ميل غريزي تجاه تعظيم مصالح الدولة، بأقل قدر من التكلفة. إلا أنه، في حقيقة الأمر، هذا التصور العقلاني لسلوك الدول على مسرح السياسة الدولية، تتحكم فيه اعتبارات وأهواء، بعيدة كل البعد عن التدبر العقلاني لرسم سياسة خارجية فعالة وكفؤة، بأقل قدر من الموارد. مهما بلغت احترافية ومتابعة واطلاع المحللين السياسيين لتوجهات السياسة الخارجية لدولة ما تجاه قضية دولية أو إقليمية، أو حتى داخلية في دولة أخرى، فإنه يصعب -في أحيان كثيرة- تفسير سلوك الدولة الخارجي. صحيح أنه، في حركة السياسة الخارجية للدول، تتوارى المعايير الأخلاقية والعاطفية، بل حتى الأيدلوجية، في مقابل فرض متغير المصلحة على غيره من العوامل والمتغيرات، إلا أن متغير المصلحة هذا، لا ينبغي أن يؤخذ باعتباره مسلمة تحظى بإجماع في داخل النظام السياسي، لأي دولة. منظور المصلحة الوطنية، على سبيل المثال، يختلف من وجهة نظر النخب التي في الحكم، من تلك التي تسود تيارات سياسية أخرى في الجانب الآخر من النظام السياسي. لكن ما يبدو أن هناك اتفاقا حوله، هو: أن مصالح الدول، لا قيم وأخلاقيات نظامها السياسي، ما يدفع حركة سياستها الخارجية، من وجهة نظر النخبة الحاكمة، في فترة تاريخية معينة. في الولاياتالمتحدة، على سبيل المثال، يختلف تعريف مصطلح المصلحة القومية عند الديمقراطيين، منه عند الجمهوريين.. وكذا تختلف أدوات تنفيذ السياسة الخارجية الأمريكية، من عهد لعهد. الديمقراطيون، على سبيل المثال، هم الذين ورطوا البلاد في حرب فيتنام، والجمهوريون، هم من أخرج البلاد من مستنقع حرب فيتنام، بينما المنطق يفترض العكس: أخذا العامل الأيدلوجي في عين الاعتبار. تماما، حدث العكس في حربي أفغانستان والعراق، بداية القرن الجديد: الجمهوريون هم من شن تلك الحروب، وعرّضوا البلاد لأزمة اقتصادية خطيرة بسبب تكلفة تلك الحروب الباهظة، ليأتي الديمقراطيون، وينسحبوا من أفغانستان والعراق.. ويرجعوا قطار الاقتصاد الأمريكي إلى مساره، بعد أن أخرجه الجمهوريون بعيدا عن قضبانه. إلا أنه، في كثير من الأحيان، يصعب توقع واستشراف سلوك الدول، على مسرح السياسة الدولية، اعتمادا على المعلن من سياستها الخارجية... وهذا ما يخلق مشكلة منهجية عويصة لمحللي السياسة الخارجية المحترفين. ذلك لأن السياسة الخارجية، لأي دولة، يعد شأنا سياديا، حكرا على صانعي السياسة الخارجية وحدهم. رموز ومؤسسات السياسة الخارجية في الدولة يحتفظون لأنفسهم بمعلومات وأسرار واستراتيجيات و«تكتيكات» تحكم حركة السياسة الخارجية لدولهم، غير متاحة للكثيرين. على سبيل المثال: عندما تغدق دولة موارد اقتصادية وتستثمر بسخاء سياسيا في نظام سياسي لدولة أخرى يفتقد الشرعية في مجتمعه ويعد بمقاييس التحليل الموضوعي نظاما غير مستقر، فإنه يصعب تفسير سلوك مثل هذا، اعتمادا على ما هو معلن رسميا من السياسة الخارجية لتلك الدولة تجاه ذلك النظام السياسي غير المستقر للدولة الأخرى. مشكلة أخرى تعتري مصطلح المصلحة. ما يمكن اعتباره مصلحة آنية، يمكن أن يرتد ليصبح كارثة في الأمدين المتوسط والطويل... الأمر الذي يزيد من تكلفة خدمة المصلحة الوطنية، مع الوقت. الولاياتالمتحدة، والغرب عموما، قد تقتضي مصلحتهم الآنية دعم الانقلابات العسكرية في بعض بلدان المنطقة، وما يتمخض عنها من سيادة أنظمة حكم مستبدة، إلا أنهم يجازفون -في الأمد الطويل- بعلاقات سيئة مع شعوب تلك البلدان التي دعموا الانقلابات العسكرية فيها عندما تسقط تلك الأنظمة، بفعل الثورة.. أو بفعل مسيرة حركة التاريخ الطبيعية... خذ على سبيل المثال: علاقات الولاياتالمتحدة مع إيران، في عهد الشاه، وبعد الثورة. ليس كل ما يصدر عن مؤسسات صناعة السياسة الخارجية في أي دولة، يعكس تصرفا عقلانيا، لمنطق الدولة، الذي يحكمه متغير المصلح القومية. بالعكس: في أحيان كثيرة، منطق هوى من يصنعون السياسة الخارجية للدولة هو من يحكم حركة سياستها الخارجية. هذا بالإضافة إلى المشكلة المنهجية التي يعاني منها متغير المصلحة الوطنية، الذي يعتبره الكثيرون متغيرا موضوعيا محايدا يمكن قياسه كميا، وهو ليس كذلك، تماما.