ما زلت في أجواء معرض الكتاب مأخوذا بالعناوين الكثيرة التي تهادت أمامي بخيلاء وأنا ممسك يدي عن شرائها بعد أن آليت ألا أشتري كتابا حتى أنهي ما لدي، لكنه التزام يعرفه محبو الكتب سرعان ما يتهاوى أمام عنوان جذاب. حتى هذه أعددت نفسي لها، ليس فقط لأن الكتاب لا يقرأ من عنوانه، وإنما لخداع بعض المسميات حتى لا أقول الكتاب والمؤلفين، أظل أفحص الفهرس وأقلب الصفحات حتى ليظن البائع أني أهم بحفظ السطور. شغف القراءة أمر يشبه حب الاكتشاف، يبدأ بالاهتمام بفكرة ما ثم يتفاقم إلى التتبع عندما يحيلك كتاب إلى آخر لتحيط بالفكرة الأساس التي تتحول مع القراءة إلى موضوع شائق تتبحر فيه، تجد فرعا تدلت أغصانه لتدنيك لأغصان أخرى فتتكون أمامك شجرة معرفة تتسلقها جذعا جذعا، ولأنه إبحار فإن ماءه لا يروي فتظل عطشا للمعرفة، والقارئ الحقيقي يشعر أنه كلما قرأ أكثر اكتشف أن جهله أكبر. أتذكر في الزمانات، على قول حبيبنا القصيبي رحمه الله، كنت أسافر بحقيبة وأعود باثنتين، وأتذكر معاناتي، وربما كل جيلي، مع مراقبي المطبوعات بالمطار، حتى غدوا يعرفونني بالاسم، أسلمهم حقيبة الكتب وقائمة بالعناوين أحتفظ بصورة منها ثم أعود لاستلام كتبي بعد أيام، أكثر من هذا كنت أبقي بعض الكتب المؤكد حظرها لدى أصدقاء بالخارج لأكمل قراءتها في سفرات قادمة، بينما جيل اليوم يستطيع بكبسة زر الحصول على الكتاب الذي يريد وربما بالمجان. بين دفتي الكتاب، أي كتاب، هناك فكرة هائمة، إن لم تروها بأفكار أخرى، لا يهم إن كانت مع أو ضد الفكرة الأولى، ستذبل كالوردة المنزوعة من عودها، والمرء لا يقرأ ليتعلم وحسب أو ليناقش، إنما ليروي الشبق الداخلي لحب المعرفة والاستجلاء بين الأفكار المختلفة وربما المتناقضة أحيانا، القراءة تعلمنا القدرة على الاستنباط والربط والتحليل وفهم ميكانيزم ما يدور حولنا من أمور وأفكار واتجاهات ليكون لنا موقف منها. لم تعد القراءة وسيلة تسلية وتمضية وقت فراغ، ولم يعد المثقف هو من يعرف من كل بستان زهرة، المثقف موقف والقراءة وسيلة وأداة اتخاذ هذا الموقف وتبنيه. القراءة تثاقف وليست ثقافة، الأولى دينامية متحركة والثانية جامدة كامنة، الأولى تعني توالد الأفكار وتلاقحها والثانية تعنى بآراء متمحورة. لذا قيل إن المعرفة تراكمية، بمعنى إضافات متتالية تتأتى من القراءة والاكتشاف والاختراع منذ اكتشاف الأبجدية الأولى وتصنيع الورق واختراع المطبعة، ورحلة طويلة انتهت بولادة الكمبيوتر وثورة المعلومات، ولا أحد يعلم ما سيأتي به الغد.