طرح الدكتور عبدالله الغذامي، أستاذ النقد والنظرية بجامعة الملك سعود تجربته مع القراءة، ضمن فعاليات المشروع الوطني الثقافي لتجديد الصلة بالكتاب وخصص موضوع (تجاربهم مع القراءة) كعنوان للملتقى. وذلك في الأمسية الثقافية التي نظمتها مكتبة الملك عبدالعزيز العامة وتحديدًا مساء الثلاثاء 22 جمادى الأولى عام 1429ه الموافق 27 مايو 2008م. بقاعة محاضرات، فرع مكتبة الملك عبدالعزيز العامة في مركز الملك عبدالعزيز التاريخي بالمربع. ومنحت تجربة الغذّامي، حينها أجواءً ثقافية بامتياز، وفجّر عدد من الأدباء والمثقفين والأكاديميين والنقاد، أسئلة مهمة حول علاقة المبدع بالكتاب وصناعة المعرفة وتوليد الأفكار.. ونجح الغذامي في شد انتباه جمهور الحاضرين الذين اكتظت بهم قاعة مكتبة الملك عبدالعزيز العامة، عندما سرد رؤى وأفكارًا بخصوص أنماط مبتكرة للقراءة وسلطان اللغة، وقوة المعلومة، والاندماج مع الكتاب؛ وأعطى نماذج ناجحة لمبدعين استطاعوا من خلال ارتباطهم بالكتاب إنتاج عقول ثالثة لهم، كما كشف عن علاقته بالكتاب في سن مبكرة، ورفض الغذامي وصم المجتمع العربي بأنه لا يقرأ مؤكّدًا أن الجميع يقرأ، لكن الاختلاف على ماذا يقرأ؟ واعترف الناقد المعروف، بأن علاقته بالكتاب جعلت علاقته الاجتماعية تصل إلى المستويات الدنيا؛ فضلاً عن أنه صارم في مواعيده لدرجة أنه يغلق باب منزله في وجه أي شخص يطرقه إذا زاره دون موعد مسبق! كما اعترف بجهله في إشكاليات التقنية الحديثة المتعلقة بالحاسب الآلي والإنترنت، وأكّد على أن الكتاب الورقي سيبقى صامدًا ولن يتزحزح عن مكانه رغم كل المحاولات للتقليل من شأنه وسحب البساط منه..! وعدّ الكتب الأكثر مبيعًا لا تعني ذلك جودتها مستشهدًا بكتاب «لا تحزن»؛ إذ يرى أن سر شهرته بين الناس هو انه «يضرب على أوتار أحزانهم»، وهو ما ينسحب على كتب مماثلة..! رحلة القراءة بين عنيزة السعودية وإكسترا البريطانية في بداية محاضرته، تحدث الدكتور عبدالله الغذامي عن بداياته مع القراءة، والكتاب، مشيرًا إلى أن علاقته بالكتاب بدأت عندما كان يتلقى تعليمه في مسقط رأسه عنيزة التي وصفها أمين الريحاني بباريس نجد، من خلال الكتب التي توزع في المسابقات الثقافية بين طلبة المدارس، وعدّ نفسه مدينًا لأناس صنعوه من حيث القراءة، ومن حيث أن يكون إنسانًا قارئًا، أول هؤلاء، كان والده، رحمه الله، الذي كان ينتمي إلى فكرة تربوية يعتقد فيها أن الشارع مُضر بالولد، وخروج الولد الصغير إلى الشارع يفسده ويفسد أخلاقه ويجعله غير مُربى تربية كافية؛ فحرص على إبقائي في البيت، لكن البقاء في البيت يتطلب أسبابًا كافية لذلك.. هذا التصرّف بالطبع، انعكس على علاقاته الاجتماعية، وأثّر بالسلب فيها، حيث صارت قليلة جدًا، وتأثّرت حياته؛ حتى صارت خيالية، وصار يعيش مع الأموات، أكثر من الأحياء! ..الفرزدق، الجاحظ، المتنبي، أناس ليسوا في الكون ولكن في الخيال، عاش مع الكائنات الورقية، الكائنات الخيالية، وعمّر خياله عبرها! وقال: كان لأساتذته في المعهد العلمي دور في تحبيبه للقراءة والكتاب. وعدد الغذامي أنماط القراءة إلى أربعة أنواع وهي القراءة السريعة، مثل قراءة الصحف والكتب بصورة عابرة، القراءة المهنية وهي قراءة أُصيب بها النقاد ومعها يفقد الناقد المتعة، بل إنه لا يملك الخيار حيالها ولا يستطيع مكرهًا إلا أن يكمل قراءة الكتاب رغم ضعف مادته، القراءة الوظيفية وهي التي يدركها المتعاملون مع الوسط الأكاديمي ويكون مستوى العمل أرقى من بعض جوانب القراءة لكنها لا تتيح المردود الذهني لها، والقراءة الفكرية أو التأملية وبها تتحقق صناعة المعرفة وصناعة الأفكار. مصادر معرفية وأعاد الناقد إلى الأذهان الأجواء الثقافية التي عاشها الجاحظ الذي عُدّ أحد أبرز القراء في عصره، حيث كان يستأجر دكاكين الوراقين ليلاً منذ ساعات الإغلاق وحتى ساعات الافتتاح في الصباح ويسهر على قراءة ما تجود به هذه الدكاكين من رصيد معرفي انساني مشكلة شخصية الجاحظ. استمرت الأمور على هذا الشكل وعندما بدأت تتأزّم؛ بسبب نقص المادة، وقلة ذات اليد، ابتكر من خياراته وسائل أتاحت له مصادر معرفية أخرى، تمثّلت في أشكال متنوعة: الأول: الاستعارة وقد أخذنا بنظام الاستعارة من مكتبة المعهد العلمي، أو مكتبة الجامع، وهي مكتبة جامعة، تراثية، وكتب دين، وبعض المخطوطات، الثاني: الإهداء، حيث كان في المعهد العلمي، نشاط ثقافي كبير يمارسه، أيضًا كان لدرجات التفوق، والنجاح، جوائز من الكتب. الثالث: الكتاب المستعمل. أورد الغذامي محطتين مهمتين تفصل بينهما عقود فجرت في نفسه محبة الكتاب وشكلتا عقله المعرفي، هما عنيزة السعودية واكسترا البريطانية، حيث درس في الاولى المراحل الدراسية حتى الثانوية العامة، والثانية حصل من جامعتها على شهادة الدكتوراه. وفي عنيزة شعر الغذامي بغصة وهو يشاهد كتبًا تباع لأحد ابناء مدينته بعد أن قرر تركها لأسباب لا يعرفها. وكان الغذامي الصغير قد اشترى له والده قبل أيام دراجة هوائية (سيكل) من الرياض بمبلغ 200 ريال، من الرياض، ذهب حينها وزملاؤه لاستقبال الدراجة باحتفال كبير، وأخذوها، ومشوا بها من وسط السوق التجاري؛ كي يراها كل إنسان من فرط الفرحة والاستعراض! وصار يستخدم هذه الدراجة في جميع مشاويره. ولحرصه على شراء كمية من هذه الكتب اضطر إلى بيع هذه الدراجة الغالية على نفسه، بسعر 180 ريالاً، وتوجه على الفور إلى المكتبة واشترى مجموعة كتب كبيرة منها شكَّلت النواة الحقيقية لمكتبته الخاصة في البيت. وصار يشعر بالسعادة من هذه الكتب التي تملأ بيته، وظل هذا الإحساس والعلاقة مع الكتاب المستعمل إلى أن ذهب إلى بريطانيا. وفي سوق اكسترا البريطانية وعندما كان الغذامي يتلقى دراسته للحصول على الدكتوراه من جامعة اكسترا التي ابتعث الى بريطانيا في عام 1971 لهذا الغرض أخذ يتردد على مكتبة تحمل اسم مكتبة اكسترا للكتب النادرة ويشتري كتبًا متوسط سعرها 5 بنسات وهو ما يعادل سعر فنجان قهوة في تلك الفترة. وقدر أن المكتبة فتحت فرعًا لها في مكان راق وتوجه إلى هذا الفرع؛ ليجد أن الكتاب الذي سعره 5 بنسات يباع ب200 جنيه، ولدى سؤاله صاحب المكتبة الذي يعرفه جيدًا، قال له: لماذا أتيت إلى هنا هذه المكتبة للذين جيوبهم مليئة بالنقود وعقولهم فارغة من المعرفة! وعن المصدر الرابع والأخير، في علاقته مع الكتاب، وهو الشراء، شراء الكتب، مشيرًا إلى ذكرياته الجميلة مع مكتبة المؤيد بالطائف؛ لأن لها فضلاً كبيرًا عليه شخصيًا، حيث كان يتردد على مكتبة المؤيد واقتنى منها كتب سليمان العيسى ونزار قباني، إضافةً إلى كتب أخرى، أحيانًا بعضها ممنوعة، وكتبًا أخرى لم يستطع أن يذكر عناوينها إلى الآن وهو يشعر بممنوعيتها وأن مجرد ذكرها يقود إلى تهمة..!! القراءة سيرة ذهنية واعتبر الغذامي أن للقراءة أدوارًا خطيرة: منها دور سحري ودور منتج ودور يسهم في التغيير النوعي للكائنات، «إذ إن من يملك المعلومة يضع له قدمًا في الحياة». القراءة سيرة ذهنية وأوضح الغذامي بأن القراءة حينما تكون سيرة ذهنية للشخص لابد أنه سيكتشف في حياته أن هناك أنواعًا من القراءة. والذي رآه ومارسه من القراءة، أربعة أنواع: الأولى: القراءة السريعة، مثلما نقرأ الصحف والكتابات الرسمية، أو بعض الروايات. الثانية: القراءة المهنية، والقراءة الناقدة التي أصيب بها النقد؛ لأنني أعتقد أنها قراءة فرضية سبب كونها قراءة مرضية. إن الناقد وهو يقرأ يفقد شرط المتعة؛ لأنه لابد أن يؤدي العمل ولا يملك الخيار الذي يملكه غيره، بمعنى أنك إذا لم تحب العمل الذي بين يديك تتركه! أما الناقد فلا يستطيع الفكاك، مجبراً ومرغماً لاستكمال القراءة كرهًا وعدم رغبة؛ لأنه يمارس مهنة كمهنة! بما أنه ناقد، ولابد أن يكمل المشوار؛ لأنه مطالب أن يبدي رأيًا، وأن يبدي فكرة. فالقراءة المهنية هي وظيفة الناقد، ومن ثم هي عبء عليه، عبء عقلي، وذهني، وقد تضر به على المستوى الجسدي والمستوى الذهني؛ لأنه سيمارس قراءة لا يرغب بها، بما أنها واجب لابد أن يؤديه كناقد، وبما أنه مطالب أن يجيب على أسئلة كثيرة للمجتمع الثقافي عن أي كتاب يصدر حتى ولو كان الكتاب رديئًا، لابد أن يذكر نوعية هذه الرداءة، ولما هو رديء، وما سبب الرداءة. الثالثة: وظيفية ويدركها كل الإخوة الذين يعملون في الوسط الأكاديمي، والقراءة الوظيفية، تحتاج متابعة رسائل الطلاب في الماجستير والدكتوراه؛ تحكيم أعمال علمية لآخرين من جامعات أخرى، لابد أن تحكمها هذه قراءة. صحيح مستوى العمل فيها أرقى من بعض جوانب القراءة المهنية لكن القراءة الوظيفية لا تنتج المردود المعرفي الذهني لفاعلها، لا القراءة الثانية ولا الثالثة. الرابعة: وهي القراءة الحقيقية، المهمة والتي يُبنى عليها مصير المعرفة البشرية عمومًا، وهي أسميها القراء الفكرية والقراءة التأملية. وأشار الغذامي إلى أن القراءة الفكرية، هو أن يجنح بعضنا متجاوزًا القراءات السريعة التي هي القراءة اليومية، ويتساوى فيها الجميع، القراءة المهنية التي تعود إلى مهنة الشخص، كمثل القراءة الوظيفية التي تعود إلى دوره كأكاديمي، تأتي القراءة الفكرية؛ لأن في القراءة الفكرية تبدأ صناعة المعرفة، صناعة الأفكار، مشيرًا إلى أن الجاحظ عنده كلمة مهمة جدًا كان يعرف بها الأدب، لكن من الممكن أن ننقلها لكي تكون تعريفًا لكل شيء يمكن أن نمارسه، وهي عبارة: "عقل غيرك تضيفه إلى عقلك"! الواقع أن هذا هو حال الكتب، أنت إذا أخذت؛ فأنت تمسك بين يديك عقلاً! تمسك بين يديك فكرًا! تمسك بين يديك سلوكًا ذهنيًا، وأخلاقيًا، ومعرفيًا، ونفسيًا، واجتماعيًا، وثقافيًا، وحضاريًا! ثلاثة كتب تأسره أوضح الغذّامي أنه تعوَّد مع هذه الكتب أن يطيل الأمد معها، ويمضي الزمن معها مدة طويلة، لأن المتعة، بدلاً من أن تكون متعة عاطفية، تكون متعة عقلية، متعة نفسية، وقدرة على إنتاج المعرفة. وتعوّد كذلك أن يكتب على الهوامش، ويضع سطورًا، ويحمل ورقات، وهو ما زال إلى الآن، يحمل القصاصات، والورقات، ويكتب على أي ورقة، أي فكرة..! وعن أنواع الكتب التي ربما تأسره أسرًا، وتجعله عاجزًا أن يغادرها، ويتمنى ألا ينهيها، جرت معي في ثلاثة كتب: أحدها، "داغستان بلدي" لرسول حمزاتوف، فقد أحس بألم شديد، عندما انتهى منه، أحس بفقد، وضياع، وشعر بأن وجوده ليس له معنى، واليوم ليس لديه عمل! لأن الكتاب "داغستان بلدي" انتهى، وليس لديه موعد معه كي يقرأه. فشعر بالرعب لأن الكتاب انتهى، ولم يعد في صفحاته شيء كي يستمر معه! أيضًا كتاب "مئة عام من العزلة" إحساسه بهذا الكتاب، وهو يتقدم في الصفحات، بدأ يهدّئ من تقدمه، خشية أن يصل إلى النهاية؛ لأنه لا يريد أن يصل إلى النهاية؛ بالإضافة إلى كتاب"مثنوي" لجلال الدين الرومي، ست مجلدات، عدّه كتابًا لا يمكن يشعر بقبول أن يغادره! لأنه في حالة انسجام كبير مع جلال الدين الرومي في "مثنوي"، فهذا الكتاب، كتاب عظيم، كتاب يملأ الروح والعقل معًا، وينصح الغذّامي أي إنسان يحصل على مثنوي وهو في ست مجلدات، ونشر في المجلس الأعلى للثقافة في مصر، ترجمة جيدة جدًا، كتاب ثري ثراء يجعلك تعيش معه قدرة العقل البشري على أن يبدع..! وأجاب الغذّامي عن سؤال فرضه هو: كم ساعةً أقرأ؟! قائلاً: إن كل وقته قراءة، كل لحظات حياته قراءة، إذا لم يقرأ يشعر أنه لا شيء، محض هباءً منثورًا، ويرى أن الكتابة على العكس، الكتابة عنده قليلة جدًا، ومرتبطة ارتباطًا كبيرًا جدًا بالمزاج..! العزلة بسبب القراءة! واعترف الدكتور عبدالله الغذامي أثناء سرد تجربته مع القراءة أن أظهر عيوبه وأخطرها علاقاته الاجتماعية؛ لأن علاقاته الاجتماعية صفر، بسبب هذه الكتب. وأن مسألة العزلة، بالنسبة له كانت إيجابية؛ لأنها أدت به لأن يقرأ، وأن يكتب، وألا يشغله شاغل. وقال: إن انصرافه عن المجتمع جعله يعيش مع كائنات ورقية خيالية، عالمه هو عالم المكتبة، عالم الورق، عالم الكائنات، والكتب التي تحدث عنها واشتراها، إلى الآن موجودة عنده، مكتبته التي هي في بيته، هي الكتب التي كان قد أخذها في المرحلة الصغرى. ورفض الغذامي وصف العرب بأنهم أمة لا تقرأ وقال: ان الجميع يقرأ في الدين والفن والرياضة وغيرها، لكن السؤال ماذا يقرؤون، معتبرا ان الإحصاءات بخصوص نسبة قراءة الشعوب ليست موثقة، بل ينقصها الاستقصاء، مطالبًا التفريق بين نوعية الكتب التي تقرأ أو تلك التي لا تقرأ. وأكّد الغذّامي على أن الكتاب الورقي سيبقى صامدًا ولن يتزحزح عن مكانه رغم كل المحاولات للتقليل من شأنه وسحب البساط منه..! مشيرًا نحن الآن في هذا الزمن نتحدث وباستمرار أننا في عصر المعلومات، وأن من يملك المعلومة في هذا الزمن، يستطيع أن يضع له قدمًا مهمًا جدًا في الحياة، والذي يفقد المعلومة سيصبح محتلاً ومستعمرًا في داخله بالضرورة. والمعرفة قيمة كبرى، الكتاب قيمة كبرى، وتساءل: من قال: إن الإنترنت سوف يزيل الكتاب؟! لا شك أنه لم يقرأ التاريخ قراءة كافية؛ لأن الكتابة لم تستطع إزاحة الشفاهية، الصورة لم تستطع إزاحة الكتابة، تظل متجاورة..! التلفزيون لما جاء لم يلغِ السينما، ولم يلغ الراديو، ولم يلغ المسرح الحي على خشبات المسرح..! موضحًا أن مهارة القراءة عند الغربيين اليوم الذي يعيش في الغرب ويركب قطارًا، أو طائرة، أو يرى قوائم الكتب الأكثر مبيعًا، سيرى كتبًا بالملايين تباع في مجتمع عنده من الفضائيات، والوسائل المتعددة، لكن هذه الصيغ التي تحدث هي صيغ تنتقل من آلية إلى أخرى. شغف باحترام الكتاب وذكر الغذامي أنه يكون أحيانًا انتقائيًا، وسلبيًا في القراءة! أحيانًا يمر بالمراحل الثلاث مع الكتاب الواحد، مع الكتاب نفسه، لا يوجد كتاب كتلة واحدة! أحيانًا تجد كتابًا ينقلك بين هذه الأشياء كلها، لكن السلبية مع الكتاب في عرفه هي إيجابية أيضًا؛ لأن السلبية هي عمل تحدٍ بين طرفين، عمل نقاش نقدي بين طرفين، عنف متبادل بين طرفين، عنف من الكتاب عليك، ومنك أنت على الكتاب، فهذا نوع من الممارسات التي تحدث لنا كلها، ونعيشها، ولذلك هو الشخص الذي يسمح لنفسه أن يعمل بكل ما يمكن أن يعمل مع الكتاب، كأنه إنسان، وشخص يصارعه أحيانًا، يضمه ويعشقه أحيانًا، يسمح له بالدخول إليه أحيانًا، يسمح لنفسه بالنفور منه، ويسمح له بالنفور منه أحيانًا..! وكشف الغذامي جوانب شخصية تتعلق بتأثير ارتباطه بالكتاب على علاقته الاجتماعية، إذ إنه انصرف عن المجتمع ليعيش مع كائنات حية من ورق، مشيرًا إلى أن هناك ألفة بينه وبين الورق، بينه وبين الكتب هناك محبة، أولاده يجلسون في الحديقة يستمتعون، وهو يجلس في المكتبة ويشاهد كعوب الكتب، ويعد منظرها متعة كأنها ورود وزهور! وكأنه يحكي مع هذا وذاك، فهذا عالم؛ لأنه لا يعرف عن نفسه أنه صار سلبيًا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة مع أي كتاب على الإطلاق، يحترم الكتاب. وذكر أنه أحيانًا عندما يكون هناك مؤتمر في القاهرة أو في تونس، كثيرون يهدون إليه كتبًا، تعرف أن بعض الكتب لا تعنيك، واحترامًا للإهداء ولكل شيء، يحملها ولو دفع مبالغ إضافية بالشحن، احترامًا لشخص قدم كتابه إليه وعليه إهداء، لا يجوز في عرفه حتى على المستوى الديني أو الأخلاقي، أن يهين كتابًا أهدي إليه، ويعتقد أن هذه إهانة أخلاقية، وثقافية، لا تليق بإنسان يحترم نفسه أن يفعلها، مشيرًا أن لديه قائمة كبيرة بكتب لا يوجد لديه مجال أن يقرأها لا تدخل في عالمه، ولكن احترامًا للذين أهدوها له، أو أرسلوها وضعها، للزمن، يومًا من الأيام سيستخدم، لم يحدث أن صار له موقف سلبي، لأنه نشأ تحت مظلة الكتب، وبالكتب، ومن أجل الكتب.! واعترف الغذامي بعجزه في التعامل مع الإنترنت، وإحساسًا منه بأن الزمن قد مرَّ وتركه خلفه! وليس لديه القدرة، وخاصة القدرة البصرية؛ لأن المشكلة لديه بالبصر، الرؤية، وأصابعه تيَّبست، فعلاقته بالإنترنت والدخول إليه، السياحة فيها تكاد تكون صفرًا..! ووجّه صاحب «النقد الثقافي» انتقادًا مباشرًا للرقيب الذي يمنع طبع وفسح وتوزيع الكتاب، مما يضطر «الناشرون الى بيعه تحت الطاولة»، وهذا يسبب احساسا بأن الكتاب ممنوع، وهو تأثير وإهدار للمال ويحدث انفصامًا داخل الذات. وهذا الامر «حول طائفة من الناس الى منافقين وكذابين، كما أن الوصايا والمنع لا تؤدي إلى إصلاح بل إلى عقوق وتمرد» مضيفاً بأن المنع وممارستنا في ثقافتنا التحصين التربوي يؤديان الى أمور عكسية وسلبية كشعور القارئ بالإثم؛ فعندما يقرأ شخص كتابًا مثل رأس المال لكارل ماركس فإن قراءته يصاحبها إحساس بالجرم، ومع مرور الأيام وبقاء هذا الإحساس ملازمًا للقارئ، فإن ذلك يؤدي إلى إيجاد ذات غير سوية تدفع به الى الانحراف الحقيقي..! وإجابة حول تساؤل: لو كانت الوسائل هيئت لنا في ذلك الزمان، هل كنا سنترك الكتب ونتجه إليها؟! أجاب بكل تأكيد، بالعقول الصغيرة، سيحدث هذا، لكن بالعقل الكبير الذي يسترجع الأحداث، يجب ألا يحدث؛ لأن ممارسة العلاقة مع الورقة المكتوبة، والكلام المكتوب، لها أهمية عضوية شديدة جدًا في علاقة العين مع الكلمة، علاقة العين مع الذهاب والإياب مع الأسطر والعودة إليها مرة أخرى، والوقوف معها، معروف في الدراسات كلها، الذاكرة البصرية، ودور الذاكرة البصرية، وأهمية الذاكرة البصرية، وقدرة الذاكرة البصرية على تثبيت كل ما هو في مجال الإبصار، واستدعاؤه مرة أخرى يكون أقوى وأسرع، فالذاكرة البصرية لها وظيفة، في الإنترنت وغيرها، الذاكرة البصرية سريعة، تسرع التنقل بشدة، لكن التعامل مع الكتاب في علاقة الجسد مع الجسد، حيث عد الكتاب جسدًا آخر، تشبه أن تحب أحدًا بالأحلام، أو أن تحب بالحقيقة الجسدية بين جسدين، الحب بين جسدين له قيمة، والحب عبر الأحلام والأوهام له قيمة مختلفة..! يُذكر أن الغذَّامي، يعد أحد النقاد القلائل الذي يتمتع بموهبة نقدية غير عادية، وهذا ما انعكس في مؤلفاته من «الخطيئة والتكفير من البنوية الى التشريحية» الذي صدر قبل 23 عاماً وأعاد طباعته في سنوات لاحقة، مروراً ب «تأنيث القصيدة والقارئ المختلف» و«تشريح النص»، و«الصوت القديم الجديد»، و«الموقف من الحداثة»، و«الكتابة ضد الكتابة»، و«ثقافة الاسئلة» و«المشاكلة والاختلاف (قراءة في النظرية النقدية العربية وبحث في التشبيه المختلف)، و«المرأة واللغة»، و«ثقافة الوهم (مقاربات عن المرأة واللغة والجسد)، حكاية سحارة (حكايات وأكاذيب)، تأنيث القصيدة والقارئ المختلف، النقد الثقافي (مقدمة نظرية وقراءة في الانساق العربية). وغيرها من الدراسات والبحوث الكثيرة.