يستأنف مجلس الشورى خلال جلساته الثلاث القادمة، مناقشة أحد أهم الملفات الوطنية التي ظلت تراوح مكانها منذ سنوات؛ سواء تحت قبة المجلس أو حتى خارجه، دون إحراز أي تقدم مهم عليها! والملف المقصود هو التعديلات المقترحة على نظام التقاعد؛ التي يتوقف على إنجازها إنهاء شبح العجز الوشيك على موارد صندوقي التقاعد المدني والعسكري، شريطة أن تكون التعديلات (واقعية) وفاعلة؛ بمعنى أن تتعامل مع جذور المشكلة وليس مع أعراضها. والمؤكد هو أن عدم حسم الجدل الدائر داخل أروقة المجلس حول إصلاح نظام التقاعد، سيزيد من تفاقم النتائج السلبية المترتبة على ذلك التأخير، وهذا بدوره يطرح أكثر من علامة استفهام حول أسباب البطء الملحوظ الذي يتعامل به مجلسنا الموقر (أحيانا) مع عدد من الملفات الوطنية الهامة التي لا تحتمل المزيد من التأجيل، وذلك في مقابل سرعة البت (النسبية) في العديد من الموضوعات التي قد لا تحظى بنفس القدر من الأهمية! من جانب ثان، لا يمكن إغفال حقيقة أن المؤسسة العامة للتقاعد تتحمل قدرا من المسؤولية؛ لا يقل عن مسؤولية (الشورى) وذلك بالنظر إلى تقاعس (المؤسسة) عن التحرك المبكر لإيجاد حلول لمشاكل صناديقها وضعف عوائد استثماراتها، خصوصا بعد اتضاح الوضع المقلق الذي بات يهدد قدرة (المؤسسة) على الاستمرار في الوفاء بالتزاماتها تجاه المتقاعدين بعد سنوات قليلة، ويبدو أن (المؤسسة) ذاتها قد أصيبت بالشيخوخة؛ مثلها مثل الكثير من المستفيدين من خدماتها! وربما آن الآوان لإحالتها للتقاعد، والتفكير جديا في إنشاء جهاز وطني بديل يتولى مهامها. ومن جانب (ثالث)، يبدو أن وزارة المالية؛ التي يرأس وزيرها مجلس إدارة مؤسسة التقاعد، أسهمت بشكل أو بآخر في وصول مؤسسة التقاعد إلى مرحلة الكهولة المبكرة، بسبب تأخرها كثيرا في التعامل (الاحترافي) مع التحديات التي تواجه المؤسسة والمتقاعدين، بعدم مبادرتها إلى إيجاد حلول ناجعة حين ظهرت البوادر الأولى للمشكلة، والمؤسف أن ذلك لم يحدث خلال السنوات العشر التي سبقت بدء تراجع أسعار البترول في منتصف عام 2014، وربما فاقم من حجم هذا التحدي، تأخر (الوزارة) عن سداد مبلغ ال45 مليار ريال المستحقة لحساب المؤسسة العامة للتقاعد! والملفت هنا هو أننا لا نعلم حتى الآن ما إذا كانت الوزارة قد قامت بالوفاء بذلك المبلغ أم لا؟! وفي ضوء ما تقدم، يتعين على الجهات الثلاث، وهي مجلس الشورى، ومؤسسة التقاعد، ووزارة المالية، سرعة التحرك، لحلحلة هذه الأزمة، لا سيما مع وجود كيان فاعل مثل مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية الذي يثق المواطنون بقدرته على تذليل أي معوقات قد تكتنف سرعة إيجاد حلول (عملية) لهذا الوضع؛ الذي لم يعد بالإمكان التعامل معه بالمزيد من البطء، خصوصا مع تضاؤل فرص حصول (المؤسسة) على قرض حكومي كبير، أو إنشاء صندوق لدعم التقاعد، وهذا ما يجعل أكثر من 660 ألف من المتقاعدين وأفراد أسرهم يتطلعون إلى قرارات تطمئنهم وتزيح عن كواهلهم القلق على مستقبلهم المعيشي. وفي تقديري فإن أبرز التحديات التي تعاني منها مؤسسة التقاعد المدني تتمثل في ما يلي: 1- تفاقم العجز الإكتواري في حسابات التقاعد والتي ترفض (المؤسسة) الإفصاح (رسميا) عن مقداره حتى الآن! أو عن الوقت الذي سيؤدي فيه إلى إصابة تلك الصناديق بالشلل، وهي بذلك تتعامل مع حسابات مؤسسة (عامة) كما لو كانت حسابات مؤسسة (خاصة)! 2- عدم وضع حلول ملائمة لمتلازمة التقاعد المبكر، وهي المتهم الرئيس في بروز شبح العجز المرتقب، لتسببها في زيادة عدد المتقاعدين مبكرا؛ الذين صاروا عبئا متزايدا على موارد الصناديق بعد انقطاع دفع اشتراكاتهم، وبدء حصولهم على معاشاتهم التقاعدية لفترات طويلة؛ قد تتجاوز مدة خدماتهم! 3- عدم الكفاءة التي لا تخطئها عين اقتصادي كفؤ، في إدارة وتنمية استثمارات أصول صندوقي التقاعد، ومحدودية الإفصاح عن طبيعة استثماراتهما، والتعامل معها كما لو كانت أحد الأسرار التي يخل الكشف عنها بأمننا الوطني! والحال كذلك، أعتقد أن المطلوب الآن هو ما يلي: أولا: قيام مجلس الشورى في أسرع وقت بإقرار التوصيات (المناسبة) بشأن التعديلات المطروحة لمعالجة اختلالات نظام التقاعد؛ باعتبار المجلس هو الشريك (التشريعي) للحكومة، ولعل من أهم ما يجب على المجلس اتخاذه، هو إعادة النظر في التقاعد المبكر، وزيادة المدة اللازمة لاستحقاقه، وربما رفع نسبة الاستقطاع بواقع 1 أو 2%، وذلك بدلا من مقترح رفع سن التقاعد إلى 62 سنة؛ لا سيما أن إمكانية التمديد لفوق الستين، مكفولة حاليا وفق ضوابط معينة ولبعض الفئات، وذلك تجنبا لتعميق تحد وطني آخر هو بطالة الشباب الذين تتضاءل أمامهم فرص التوظيف. ثانيا: النظر جديا في مقترح دمج مؤسستي التقاعد الحكومي والخاص، ولكن ذلك يستلزم أولا دمج اختصاصات وزارتي الخدمة المدنية والعمل، وتوحيد الأنظمة المتعلقة بالتقاعد في البلاد. ثالثا: سحب صلاحية إدارة استثمارات التقاعد من (المؤسسة) التي أثبتت خلال السنوات الماضية قدرتها (المحدودة) في تنميتها، وإيكال المهمة لجهة محترفة ومتخصصة؛ قادرة على تحقيق أقصى عوائد ممكنة من تلك الأصول. ختاما، أعتقد أننا على الرغم من كوننا قطعنا الخطوة الأولى في حل هذا التحدي الوطني المهم؛ وهي الاعتراف بالمشكلة، إلا أن ذلك لا يكفي لأننا على ما يبدو لا نزال نخشى القيام بما يتعين علينا عمله لمواجهة ذلك التحدي وإصلاح الوضع المائل لتلك الصناديق، وهذا ما سيفاقم حتما من حجم (كرة الثلج)، وسيزيد من صعوبة وضع حد لتحد وطني؛ تأخرنا كثيرا في التعامل معه بما يستحقه من اهتمام.