يرى كثيرون أن الثقافة لا تنمو وتزدهر في ظل القيود، وأن المثقف متى كان مقيدا بسلطة ما، كسلطة المجتمع وما يسود فيه من أفكار وقيم، أو سلطة السياسة وما تفرضه من توجهات، أو سلطة علماء الدين وما يضعونه من حدود، فإن المثقف غالبا تجدب أرضه ويجف نبعه، ينغلق ذهنيا فلا تنبت حقوله سوى الغثاء والمحل. للوهلة الأولى قد يبدو هذا القول صحيحا، فما يتبادر إلى الذهن هو أن العقل المنتج لا يثمر إلا متى كان حرا، وآمنا، لا يخاف سطوة أحد ولا يعاني من وسواس إغضاب أحد. وربما هذا ما يجعل كثيرا من المثقفين يؤمنون أن عطاءهم الفكري أو الأدبي ينمو ويزدهر متى حطموا ما تطوقهم به ثقافة مجتمعهم من قيود تحد من انطلاق الفكر والخيال، وأن تمردهم على القيم الدينية أو الأعراف الاجتماعية وعدم خضوعهم للقيود المفروضة على المنتج الثقافي، هي المقابل المحسوس لمعنى الحرية. لكنا عند التأمل في طبيعة الحياة نجد أن القيود المفروضة على المثقف ليست منحصرة فقط في تلك التابوهات المعدودة التي يراها ويحسها مما هو محظور عليه الاقتراب منه. هناك قيود أخرى كثيرة غير هذه تحد من حرية المثقف، لكنه لا يحس بها، فالحياة في طبيعتها تفرض على الإنسان قيودا ذاتية تستمد سلطتها من داخل الذات، ويظل الإنسان مقيدا بها مهما ظن نفسه حرا طليقا. المثقف مثله مثل غيره، واقع في أسر قيوده الذاتية التي تفرضها عليه الحياة، فهو مقيد بالتنشئة التي تلقاها في أسرته، ونوع التعليم الذي حصل عليه في مدرسته، وطبيعة ثقافة المجتمع الذي ينتمي إليه، وعمق القيم الدينية التي يعتنقها، والبيئة الاقتصادية التي يمثلها، والمناخ الجغرافي والسياسي الذي يحتويه، كل ذلك له سلطة خفية على المثقف، تتحكم في تفكيره وتلبسه ما تشاء من القيود بلطف لا يحس به، المثقف لا يمكن له أن يكون حرا مهما رغب، فالإنسان يظل أسير ما شكل عقله من التوجيهات والقيم والمبادئ والأعراف والخبرات والمعلومات التي تلقاها خلال نشأته، لكن المثقف يظن واهما أن بإمكانه التحرر من كل ذلك، وأن مشكلته الكبرى مع القيود الظاهرة المفروضة عليه من خارج الذات. قد يثور المثقف ضد ثقافة مجتمعه، التي يراها عبئا عليه بقيودها وقيمها ومبادئها، وقد يندفع إلى التبرؤ منها وقطع كل ما يربطه بها وينسبه إليها، وربما تباهى (واهما) أنه صار حرا بتبرئه منها واعتناق غيرها مما يراه أفضل وأجمل. لكنه لو تأمل في أمر نفسه، لأدرك أنه في واقع حاله لم يزد على أن استبدل قيدا بقيد، فهو حين تخلى عن قيد ثقافة مجتمعه التي لا تعجبه، ارتدى راضيا قيد ثقافات أخرى أعجبته. وما أظنه أن المثقف في بحثه عن الحرية، لا يستطيع الهرب من القيود، فهي تلازمه أينما هرب، فيلجأ إلى التحايل عليها بتبديلها، وغالبا نجده يختار من القيود ما يبهره بريق ألوانه وغرابة شكله.