«سلمان للإغاثة» يوزع 526 حقيبة إيوائية في أفغانستان    الكشف عن مدرب الشباب الجديد    تحقيق أولي: تحطم الطائرة الأذربيجانية ناجم عن «تدخل خارجي»    ضبط 3 مواطنين في نجران لترويجهم (53) كجم "حشيش"    وزير «الشؤون الإسلامية»: المملكة تواصل نشر قيم الإسلام السمحة    اتهامات لنتنياهو بعرقلتها.. تضاؤل فرص إبرام هدنة غزة    خطيب الحرم: التعصب مرض كريه يزدري المخالف    دار الملاحظة الأجتماعية بجازان تشارك في مبادرة "التنشئة التربويه بين الواقع والمأمول "    الذهب يستقر وسط التوترات الجيوسياسية ويتجه لتحقيق مكاسب أسبوعية    مدرب اليمن يستهدف فوز أول على البحرين    قوات الاحتلال الإسرائيلي تقتحم مستشفى كمال عدوان شمال غزة    مدرب العراق: سأواجه «السعودية» بالأساسيين    الفرصة لا تزال مهيأة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    مآل قيمة معارف الإخباريين والقُصّاص    الصندوق السعودي للتنمية يموّل مستشفى الملك سلمان التخصصي في زامبيا    مهرجان الرياض للمسرح يبدع ويختتم دورته الثانية ويعلن أسماء الفائزين    أميّة الذكاء الاصطناعي.. تحدٍّ صامت يهدد مجتمعاتنا    الأمن.. ظلال وارفة    إحالة 5 ممارسين صحيين إلى الجهات المختصة    99.77 % مستوى الثقة في الخدمات الأمنية بوزارة الداخلية    خادم الحرمين يهنئ رئيس المجلس الرئاسي الليبي بذكرى استقلال بلاده    عبقرية النص.. «المولد» أنموذجاً    مطاعن جدع يقرأ صورة البدر الشعرية بأحدث الألوان    اجتثاث الفساد بسيف «النزاهة»    سورية الجديدة.. من الفوضى إلى الدولة    نائب أمير مكة يفتتح ملتقى مآثر الشيخ بن حميد    «كليتك».. كيف تحميها؟    3 أطعمة تسبب التسمم عند حفظها في الثلاجة    كرة القدم قبل القبيلة؟!    ليندا الفيصل.. إبداع فني متعدد المجالات    قائمة أغلى عشرة لاعبين في «خليجي زين 25» تخلو من لاعبي «الأخضر»    ضبط شخص افتعل الفوضى بإحدى الفعاليات وصدم بوابة الدخول بمركبته    122 ألف مستفيد مولهم «التنمية الاجتماعي» في 2024    فِي مَعْنى السُّؤَالِ    «إسرائيل» ترتكب «إبادة جماعية» في غزة    أهلا بالعالم    دراسة تتوصل إلى سبب المشي أثناء النوم    ثروة حيوانية    تحذير من أدوية إنقاص الوزن    وسومها في خشومها    ضرورة إصدار تصاريح لوسيطات الزواج    حرس الحدود بجازان يدشن حملة ومعرض السلامة البحرية    رفاهية الاختيار    5 مشاريع مياه تدخل حيز التشغيل لخدمة صبيا و44 قرية تابعة لها    منتخبنا كان عظيماً !    استثمار و(استحمار) !    اختتام دورات جمعية الإعاقة السمعية في جازان لهذا العام بالمكياج    وزير الدفاع وقائد الجيش اللبناني يستعرضان «الثنائية» في المجال العسكري    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الاجتماع الاستثنائي ال (46) للمجلس الوزاري لمجلس التعاون    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    وطن الأفراح    حلاوةُ ولاةِ الأمر    46.5% نموا بصادرات المعادن السعودية    التخييم في العلا يستقطب الزوار والأهالي    مسابقة المهارات    ما هكذا تورد الإبل يا سعد    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الثّقافة والسّياسة.. صراع التوأم السّيامي
نشر في المدينة يوم 06 - 01 - 2010

غالبًا ما تبدو الصورة بين الثقافة والسياسة في المشهد العالمي عامة والعربي خاصة قائمة على نوازع الصراع والتضاد، فما فتئ “المثقف” يرى في السياسي عائقًا أمام حريته بما يملكه من سلطة، أما السياسي فيقف تصويره للمثقف عند حدود الحالم بالمدينة الفاضلة «اليوتوبيا».. غير أن المفاصلة بهذه الصورة الحادة يرى البعض أنها «تعسفية»، مشيرين في ذلك إلى التقاء المثقف والسياسي في براح واسع ومتتد، ويذهبون كذلك إلى القول بثقافة السياسي، وسياسة المثقف دون حدود تذكر أو فواصل، بشكل متماهٍ بحيث كل منهما «وسيلة» في يد الآخر.. الآراء المبثوثة طي هذا التحقيق تقدم إضاءات متباينة لعلاقة المثقف والسياسي التي في جوهرها رؤية لعلاقة السياسة بالثقافة.. بداية يقول الدكتور صالح زياد عضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود: تاريخيا يرمز للعلاقة بين الثقافة والسياسة بالعلاقة بين السيف والقلم، أو الفقيه والسلطان، أو الشاعر والأمير.. الخ، وتناقش عادة في ضوء قضية الحرية والاستقلال التي تغدو لازمة من لوازم الثقافة، ومن أسباب قيمتها وأهميتها الوظيفية فلا ثقافة بلا حرية، ولا معرفة أو إبداع في ظل القيود والجمود والحجر والوصاية والتوجيه. ويستدرك زياد مضيفًا: لكن القضية من زاوية أخرى هي في وجه التصادم أو التقابل بين الرؤية السياسية التي تأخذ حسابات الثبات والاستقرار ووحدة الكلمة وهي أمور لها أهميتها من الوجهة الاجتماعية، وبين الرؤية الإبداعية والمعرفية والجمالية في الثقافة التي تأخذ حسابات الحكم والخيال ومن ثمّ التغير والتقدم وهو أمر مهم في حسابات الأمم التي تسعى لامتلاك المستقبل والتلاؤم معه. مختتمًا بقوله: لاشك أن السياسة تاريخيًّا وقفت في أحيان كثيرة في طريق تقدم الثقافة، ومارست عليها سلطة تكميم الأفواه؛ لكن الوقائع التاريخية تثبت لنا أن هذه الممارسة القمعية وبقدر اشتدادها تغلق أفق المستقبل، وتحيل الحياة إلى حمل ثقيل لا يقوى على الحركة، فتكون أقرب إلى الموت منها إلى أي شيء آخر. بين الجدلية والتضاد وفي ذات المنحى يقول الدكتور محمد الصفراني عضو نادي المدينة المنورة الأدبي والثقافي: تحديد العلاقة بين السياسة والثقافة يتطلّب تحديد مفهومنا لكلٍّ منهما حتّى يكون حديثنا مبنيًّا على أسس علمية واضحة. فمفهومي للسياسة هو أنها: حقل علمي وفكري يقوم بإنتاج السلطة الشرعية ويضعها موضع التداول كتعبير عن إرادة الجماعة وسيادتها. أما مفهومي للثقافة فهو أنّها منظومة فكرية مرتبطة بالتنوير المبني على الموقف الذي يصدر عنه الفرد. بمعنى أنه لابد للمثقف من أن يحمل موقفًا نقديًّا في نظرته للأشياء. وتأسيسًا على هذين المفهومين فإنني أظن أن نوع العلاقة بين السياسة والثقافة يتبلور في موقفين رئيسيين هما الموقف الجدلي والموقف التضادي. ولا تقل أهمية مراعاة ترتيب الموقفين عن أهمية الانطلاق من مفهوم محدد يحتكم إليه في النقاش. وتبرز أهمية ترتيب الموقفين نتيجة تولد الموقف التضادي الجدلي وليس العكس. ويستطرد الصفراني: فعلى صعيد الموقف الجدلي نجد أن السياسة والثقافة يتفقان في وحدة الموضوع؛ إذ إن الإنسان هو موضوع كليهما لأنهما علمان إنسانيان في المقام الأول. وبناء على انضوائهما تحت مظلة العلوم الإنسانية فإنهما يشتركان في الجمع بين جانبي العلمية والفنية، فالسياسة علم وفن والثقافة علم وفن. ويتمظهر اشتراك السياسة والثقافة في العلمية والفنية في الحراك التفاعلي لكل منهما من خلال الخطاب والممارسة في السياسة الثقافية ومن خلال الخطاب والممارسة في الثقافة السياسية. أما النقطة المحورية في الموقف الجدلي فهي نقطة المصدرية أو الأولية المرجعية التي يمكن أن تتجلى في صياغة تساؤل يبدو في ظاهره بسيطًا وبريئًا ولكنه في الواقع البقعة التي ينطلق منها الجدل بين السياسة والثقافة من الموقف الجدلي إلى الموقف التضادي حيث يقول التساؤل: هل السياسة هي مصدر الثقافة أم الثقافة هي مصدر السياسة؟ ولا يمكن أن يتم تقديم إجابة منطقية عن هذا التساؤل إلا في إطار الموقف التضادي. ويتابع الصفراني حديثه مضيفًا: وعلى صعيد الموقف التضادي نجد أن السياسة والثقافة يختلفان في مراعاة موازين القوى من ناحية السياسة، وفي مراعاة منظومات القيم من ناحية الثقافة. فالتحدي الكبير الذي يواجه السياسي يقع في علاقة السياسي في الثقافة الجمعية للمجتمع الذي يسوسه؛ إذ بالقدر الذي تكون فيه الثقافة الجمعية لمجتمعه متسامحة ومنفتحة يكون السياسي منفتحًا ومتسامحًا، لكن هذه الصورة مقلوبة في مجتمعات العالم الثالث والمجتمعات العربية على وجه التحديد؛ لأن السياسي في هذه المجتمعات متفتح أو حسب المصطلح السياسي يساري، في حين أن معظم مجتمعات العالم الثالث منغلقة أو حسب المصطلح السياسي يمينية. أما التحدي الكبير الذي يواجه المثقف فإنه في علاقة المثقف في الروابط غير العقلانية التي تفرض عليه التواصل مع الانتماءات التي ولد معها وفيها وبينها ولم يكن له حق اختيارها أو انتقائها، فيغيب الدور الفاعل للمثقف بمقدار إيمانه أو التصاقه أو تواصله مع تلك الروابط غير العقلانية والانتماءات غير المختارة، ويكون دور المثقف أكثر فاعلية وبالغ حضورًا بمقدار بعده عن تلك الروابط والانتماءات. ويعرج الصفراني في حديثه إلى مظاهر الاختلاف بين السياسة والثقافة بقوله: الاختلاف يبرز بين السياسة والثقافة على صعيد الموقف التضادي في سلطة المفاهيم والتصورات الموجهة لكليهما، إذ يتصور السياسي أن المثقف لا يستطيع ممارسة دور فاعل خارج نطاق التخصص العلمي الذي حصر نفسه فيه، لذا فإن السياسي يرى أن المثقف لابد أن يتأدلج لكي يتسنى له لعب دور ما على المسرح السياسي يرضى عنه السياسي؛ مما يعني جرّ الثقافة إلى عالم السياسة. ومن خلال سلطة المفاهيم يتصوّر المثقف تصوّرًا مطابقا للتصوّر السابق للسياسي؛ إذ يتصور المثقف أن السياسة وليدة الثقافة، وأن السياسي لا يستطيع لعب دور فاعل خارج محددات الثقافة التي يتبناها المجتمع وتشكل المنظومات القيمية التي يرعاها وترعاه؛ لذا فإن المثقف يرى أن السياسي لابد أن يتثاقف كيما يتسنى له لعب دور سياسي يرضى عنه المثقف مما يعني جر السياسة إلى عالم الثقافة. وإذا كانت السياسة تجر الثقافة بمعنى أن السياسي يتعاطى الثقافة فإن تعاطيه إياها يدل على أن السياسي يبحث عن تطهير ذاته لشيء من شوائبها بشيء من المبادئ والقيم التي تصدر عنها الثقافة. وإذا كانت الثقافة تحاول جر السياسة؛ بمعنى أن المثقف يتعاطى السياسة فإن تعاطيه إياها يدل على أن المثقف يبحث عن تحقيق ذاته لشيء من أحلامها بشيء من المكاسب والماديات التي تنطوي عليها السياسة. ويختم الصفراني مداخلته بقوله: ويبرز الاختلاف بين السياسة والثقافة كذلك على صعيد الموقف التضادي في درجة الفن الذي يمارسه السياسي في ميدان السياسة، ودرجة الفن الذي يمارسه المثقف في ميدان الثقافة. وتتمظهر درجة الفن في السياسة في ارتفاع سقف الروح البراغماتية عند السياسي الذي يؤمن مسبقًا أن السياسية هي فن الممكن، فالسياسي قادر على تجاوز المبادئ والأفكار التي يؤمن بها والبرامج السياسية التي يضعها، وذلك في سبيل تحقيق الممكن الذي يريد تحقيقه، وهذا يعني أن السياسي قابل للقفز على ثوابته الوقتية وتبديل مواقعه، ولذا فإنه يعيش متكيّفًا مع الواقع. وتتمظهر درجة الفن في الثقافة في انخفاض سقف الروح البراغماتية عند المثقف الذي يؤمن مسبقا أن الثقافة هي فن تكوين القناعات، فالمثقف غير قادر على تجاوز وفائه للقناعات التي يؤمن بها والحقائق للمساومات وتقديم التنازلات، ولذا فإنه يعيش رافضًا للواقع. وإذا كانت السياسة هي فن اللعب بالبيضة والحجر في آن واحد وفي الوقت الذي يفرض فيه اللعب على السياسي نظرًا للمزاجية المرنة للسياسي، وإذا كان السياسي قادرًا على اللعب بهما وفي جميع الأوقات وباحترافية عالية، فإن الثقافة هي فن اللعب إما بالبيضة وحدها أو الحجر وحده، وفي الوقت الذي يجد المثقف نفسه فيه قادرًا على اللعب نظرًا للتركيبة المزاجية الحادة للمثقف. ومن خلال سعة مساحة التضاد في العلاقة بين السياسة والثقافة نستنتج أن علاقة التضاد بين السياسة والثقافة أوسع من علاقة الجدل. ضد الجواهر المستقلة ويرى الدكتور محيى الدين محسب أن طرح سؤال العلاقة بين الثقافة والسياسة على هذا النحو يفترض أن ثمة دائرتين مستقلتين، ربما على صورة فريقين يواجه كل منهما الآخر. ماضيًا من ثمّ إلى القول: هذا المنطق في تصوري غير دقيق. فليس ثمة ممارسة سياسية دون مرجعية ثقافية ما؛ ببساطة لأن هذه الممارسة هي تكريس لمشروع ومصالح وغايات يجمعها في المحصلة ما نسميه بالايدولوجيا؛ أي إنها ممارسة لتكريس وعي ثقافي معين. وفي الجهة الثانية ليس ثمة ممارسة ثقافية مجردة من رؤية للعالم لها تصوراتها وتفسيراتها لحركة المجتمع والذات والقيم والعلاقات؛ أي ببساطة أيضًا لها أبعادها السياسية، إن لم نقل لها مشروعها السياسي الضمني. وهكذا فإن النظر إلى العلاقة بين السياسي والثقافي لا ينبغي له أن يتم من منظور (الجواهر المستقلة) أو (الماهيات المجردة)، وإنما من منظور المنطق التاريخي. وفي هذا السياق فإن التاريخ يطرح أمامنا تجارب وتمظهرات متغايرة ومتنوعة لهذه العلاقة. ولأن (المثقفين) لا يشكلون فئة اجتماعية متجانسة بالمعنى الدقيق للكلمة، فإنهم لا يسلكون مواقف متجانسة، أو يظهرون ردات فعل أو أفكارًا متطابقة. ولذلك كثيرًا ما نجد أن الواقع التاريخي يقدم لنا مواقف متفاوتة بتفاوت الوعي المعرفي للمثقف، أو بتفاوت وعيه الاجتماعي والسياسي.. الخ. خاتمة حديث محسب ضمنها في قوله: في هذا الإطار نجد أحيانًا اقترابًا يصل إلى حد التبني والتبرير في العلاقة بين السياسي وشريحة معينة من المثقفين، في الوقت الذي نجد فيه تعارضًا يصل إلى حد المعارضة في العلاقة نفسها مع شريحة أخرى مزامنة. إذن مسألة (حجر العثرة) هذه تكون واردة مع هذه الشريحة الثانية. وبطبيعة الحال فإن هذا الحجر تختلف نوعيته من سياق مجتمع إلى آخر. فعلى ضوء درجة العلاقات المنظمة للحوار ولحرية التعبير قد يكون هذا الحجر أداة لدق العنق، وقد يكون الحجة العلمية والدليل الأكثر إقناعًا وتحقيقًا للمصلحة العامة. حدود متماهية ويذهب الدكتور مرزوق بن تنباك الأكاديمي بجامعة الملك سعود إلى القول بأنه: لا يمكن أن نحيّد السياسة عن أي عمل يقوم به المرء سواء كان هذا العمل مما هو مظنة السياسة في المدرك العام أو فيما هو من تصرفات الإنسان العادية. ويعضد هذه الرؤية بما أضافه قائلاً: والثقافة في حد ذاتها عمل سياسي يتبنى السياسة لينطلق من عقال الحيز الذي هو فيه إلى حراك في عجلة الحياة العامة والخاصة، لكن الثقافة بمفهومها المعرفي قادرة على تجاوز معوقات السياسية، وتستطيع أن تمد أطرافها على مساحة أوسع بكثير من في حدود السياسة بمعناها الضيق، ونستطيع ترويضها حتى تخرج من عباءة التكميم الذي أشرت إليه إلى رحاب أوسع بشرط عملي هو أن يكون منتج الثقافة معرفيًّا شمولي النظرة مستمر العطاء غير متغير ولا منحرف مع متخيرات السياسة ومنعرجاتها التي لا تدوم ولا نستطيع أن نشير مع الثقافة في استقلالها وتجردها في المواقف الفاعلة في حياة الناس. خلاصة حديث تنباك أجمله بقوله: أما العلاقة بينهما فلا تحددها إجابة على لحظة؛ بل نظرة أشمل ومسيرة أطول تجعل الحكم على هذه العلاقة يجمع أطراف الخصوصية لكل منهما والاتساع الذي تحدده مساحة الحرية والقبول بما تمليه السياسة وما تتطلبه الثقافة. فصل تعسّفي ويتفق الدكتور سعيد السريحي مع رؤية تنباك في عدم جواز الفصل بين السياسة والثقافة حيث يقول: إن الفصل بين السياسة والثقافة فصل تعسّفي، ذلك أن للسياسة ثقافتها وللثقافة سياستها في نفس الوقت، والمشكلة ليست في تعارض سياسة الثقافة مع ثقافة السياسة وهذا التعارض ينطلق من اختلاف المواقف السياسية والثقافية للمثقف من ناحية ورجل السلطة من ناحية أخرى وهو اختلاف ينبع من حرص كل منهما على استقلاليته وكذلك سيادته وأحقيته في اتخاذ الرأي أو القرار من ناحية أخرى. ويضيف السريحي: بإمكاننا أن نجد للاختلاف بينهما بعدًا شديدًا يتمثل في الاختلاف بين الرأي الذي يمثله المثقف وصاحب القرار الذي تمثله السلطة، وهذا يعني أن الاختلاف ليس بين الثقافة والسياسة،
وإنما هو بين صاحب القرار وصاحب الرأي، أو بين المثقف والسلطة. والصراع بينهما صراع قوي في كل المجتمعات بين المثقف إبداء رأيه والسياسي في إبداء قراره، فالسلطة كما قلنا بداية لها ثقافتها وفي المقابل فالمثقف له سياسته ورأيه في الوضع الاقتصادي والاجتماعي ونحو ذلك. فنحن لا نستطيع أن ننكر أن كثيرًا من السلطات؛ وخاصة التي تشكل تهديدًا للحريات وهذه السلطات لا تنطلق في قراراتها من خطورة الحرية بقدر ما تنطلق من هشاشة سلطتها وعجزها أن تكون مقنعة لشعبها ولا تملك الأساليب لذلك إلا بالقمع.. وهي سياسة لا يمكن لها أن تصمد طويلاً في وجه الشعوب ومطالبها بالحرية وحرص المثقف في الأول والأخير على حرية الرأي. وهي باختصار بإمكان السلطة أن تقمع وتكمم الأفواه وتؤجل حركة الفكر ولا تعلم أنها بذلك تزيد الفكر عمقًا وتجذّرًا وتزيد قراراتها هشاشة. الثقافة وسيلة سياسية مشاركة الدكتور عبدالرحمن المالكي الأكاديمي بالجامعة العربية المفتوحة تمثلت في قوله: إن معالجة موضوع الثقافة بشكل عام ليس بالأمر الهين؛ فكلمة «الثقافة» تنطوي على الكثير من التعريفات على اعتبار أنها متداخلة في كثير من مجالات الفكر الإنساني، ومن ثم فإنني أتيح لنفسي أن أركز على الثقافة كهوية وارتباطها بالسياسة كأفكار ونظم، ولعل هذا يؤكد على فكرتي التي تبنى عليها هذه المقالة ألا وهي «الثقافة وسيلة سياسية»؛ فالحضارات كلها أفرخت للبشرية أنواعًا ثقافية مختلفة يحمل كل نوع في داخل هوية الجماعات البشرية التي أنتجته، ومن ثم يرتبط بها وتوسم به؛ إذن فالثقافة هي غاية الأمم التي تحرص على بناء هيكل فكري معرفي خاص بها تستطيع من خلاله السير وفق نظمها هي، ويؤكد هذا النموذج الأقرب لنا وهو الحضارة العربية الإسلامية. إذ إن إحساس الأمة الإسلامية الأولى بعظمة الدين الإسلامي جعلها تقطع شوطًا كبيرًا في إنتاج خميلة ثقافية ومعرفة مؤطرة حسب تعاليم الدين وحسب النظام السياسي الذي فرضه الإسلام على البقعة العربية وغيرها من البقاع التي تبعث الدين الحنيف، فوسمت الحضارة العربية بأنها ذات طابع إسلامي. إذن كان الوصول إلى هذا الطابع الإسلامي للثقافة غاية في حد ذاته، وهذا ينطبق على باقي ثقافات البشرية، إذ إن جل الحضارات الإنسانية سعت إلى إنتاج طابع توسم به. ويضيف المالكي: ولا يقتصر الأمر على الخصوصية الثقافية للحضارات؛ بل يتعداه إلى نشر هذه الثقافة، لتخرج الثقافة من إطارها المحلي إلى إطار العالمية، ولا يكون نشر الثقافة فرضًا أوحدًا، بل يتعداه ليشمل الهيمنة والسيطرة على الأمم التي تملك أنماطًا ثقافية ضعيفة، أو تملك تراثًا ثقافيًّا بائدًا، وعندئذ تخرج الثقافة من كونها غاية إلى كونها «وسيلة» هيمنة وسيطرة. فالأمم صاحبة الثقافات القوية تفرض هيمنتها السياسية والاقتصادية والعسكرية على غيرها من الأمم التي هي أقل منها شأنًا ثقافيًّا، وهنا ترتبط الثقافة ارتباطًا وثيقًا بالأغراض السياسية. ويستطرد المالكي في حديثه بقوله: حقيقة ليس هذا هو أول ارتباطها بالسياسة، إذ إن نشأتها ترتبط ببعض الأهداف السياسية، لكن هذا الارتباط في هذه المرحلة وهي مرحلة استخدام الثقافة وسيلة سياسية هو الارتباط الأقوى والأعمق، وهذا ما نلمسه على أرض الواقع من محاولات الغرب السابقة لتدخلهم العسكري في المنطقة العربية، فأوروبا المتمثلة في القوى الاستعمارية الكبرى، وأمريكا حاولتا بشكل قوي بث أنماط ثقافية مختلفة داخل المنطقة العربية وحتى تتغير أشكالها الثقافية، وبالفعل نجح هذا الغزو الثقافي في أداء مهامه، فأصبحنا كعرب نرتدي الأزياء الغربية، ونتذوق أشكالاً مختلفة مع الطعام الغربي، ونقرأ في الأدب الغربي، ونفضل اللغة الانجليزية أو الفرنسية باعتبارهما لغتا الثقافة والعلم، وبتنا نفر من اللغة العربية التي هي أساس هويتنا ولب جوهرنا. وهذا الفرار كان هدفًا رئيسا مقصودًا، فمتى تركنا الأساس الذي قامت عليه ثقافتنا، أصبحنا أكثر استقبالاً لأية أفكار سياسية واقتصادية واجتماعية تبثها فينا اللغات الأخرى. ولا عجب أن نرى دولة كأمريكا أو فرنسا أو انجلترا، تسعى إلى فرض هيمنتها علينا، وبالفعل نجحت بعض محاولات هذه الهيمنة. إذ باتت أمريكا كقوة عظمى ثقافيًّا وسياسيًّا قادرة على استصدار أي قرار، أو القيام بأي عمل تريده دون رادع أو وازع. وذلك لأنها استطاعت ترويض أذهاننا بما بثته قنواتها وأفلامها وكتبها. لكني في النهاية أحمل همًّا ثقافيًّا فرضه عليّ قلمي هذا الهم دومًا ما يردد: «لن تنهض أمة لا تحترم بنفسها ثقافتها».ويختم المالكي قائلاً: إننا الآن أصبحنا لا نملك من حطام الحضارات سوى إرث ثقافي خلفته لنا حضارتنا العربية الإسلامية. هذا الإرث يجب علينا أن نركن إليه في ظل التيارات الاستعمارية المحلقة بنا، مع انفتاح على حضارات العالم الآخر، انفتاح ينبع من ثقتنا في أنفسنا وثقتنا في حضارتنا.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.