( أ ) عند اقتراب الظهيرة يتوافد المزارعون الثلاثة إلى ظل الشجرة، يربت أحدهم بكفه على كوم البطيخ الملاصق للجذع، ينتخب التي بدت تفقد صلابتها. يشرع في تقطيعها بالسكين، و قبيل فروغه، يدنو رفيقاه من رائحة اللب، يتريث عن إكمال المهمة قليلا. من بعيد جاءهم رجل يسعى، كان متحزما بعمامته، و لما انحرف باتجاههم، فكها عن بطنه ثم نفضها بعجلة كاسيا بها رأسه ليقف على حد الحرث: يا وجوه الخير.. منذ عامين و أنا أبحث عن راحلتي في كل....! قاطعه أحدهم : أموسومة هي؟ ليتمم الثاني : ما لونها؟ أخذ الرجل المستغيث يصف لهم صابا نظره عليهم، عله يلمح في عيونهم ما ينبئ عن ضالته، ولم يشح عنهم إلى أرجاء البراري المترامية، إلا حينما انشغلا عنه بتأمل سكوت صاحبهما الذي انهمك عن حوارهم، يغوص برأس السكين في اللب، يخرج منها البذور. هذا الأخير، يجمع البذور في علبة معدنية تذخره إلى موسم حرثهم القادم، ثم يقفل العلبة خارجا عن سكوته هذ المرة. و بهمس يرشد صاحبيه اسالاه : هل بحث في الديار الأولى عن الراحلة؟! ( ب ) في كل عام يجتمع نفر من إخوته. إخوته الذين مادت بهم أزقة المدن القريبة، تزرع لهم الطعم، و تسخر من دورانهم الأرصفة المهشمة. يقيمون نقاشهم الأزلي حول خاصرة طفولته الثابتة، تلك الحياة التي ارتأوا أنها باتت سقاء لظمأ الفيافي الموغلة في الاحتراق.. الراعي الصغير لا يعير اهتماما لحديثهم الذي لا يفهمه، فحينما تستدير لجة حواراتهم كان يفسح لعينيه أن تمضي عنهم إلى آخر مواطن الرعي التي مر بها خلال تصفحه اليومي لسطور التلال. وحيدا يرتل على الأرض صمتا طويلا.. ذلك السكوت الأبدي يلف في طياته قرونا من العهود البدوية التي لا تهز مظان الواقفين بها، بدءا من وعاء الماء المذخور تحسبا لعطش الرعاة، مدفون تحت طلحة لا تمر من سمائها الطيور وانتهاء إلى عهد يقظة النبت البائت عن هدير السراب.. في كل عام يجتمع نفر من إخوته.. وتقرعهم صورته الصامدة، وهو يقود القطيع إلى أسرار جديدة..!