من مهمات الكاتب أن يمارس دور الداعية، وحسبنا قول الله تعالى: ((وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان))، وقوله عليه الصلاة والسلام “بلغوا عني ولو آية”، والكاتب مثله مثل خطيب الجمعة ومحاضر القاعة، وعبر الفضائيات وبرامج الإذاعات، فالجميع يؤدون واجب “النصيحة الشرعية”. ومن هذا المنطلق ينبغي على المخاطِب أن يراعي واقع الخطاب وهموم المخاطَب، فيسعى في الوقاية قبل العلاج، ويرصد العيوب ليهديها لأصحابها، ويكفينا المقولة الخالدة “رحم الله امرءاً أهدى إلينا عيوبنا”. ومن العيوب التي يجدها المتأمل في ميداننا الفكري طريقة فهم وتعاطي بعض إخوتنا مع مقولة الحافظ ابن عساكر -رحمه الله- ونصها: ((أعلم يا أخي -وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلني وإيّاك ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته- أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب، بلاه الله قبل موته بموت القلب))، وهذا النص لا خلاف عليه وهو ما يجب علينا الإيمان به والعمل بمقتضاه، ولكن يجب علينا أيضاً أن نضع محترزين اثنين هنا: أولهما: أنه كما يجب احترام العلماء وعدم الوقوع فيهم فيجب عدم تقديسهم وتحريم مناقشتهم وإلا انقلبنا من الطرف إلى الطرف، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم. وثانيهما: أن لحوم العلماء ليست وحدها المسمومة دون بقية الناس، ولذا وجدنا سماحة والدنا الراحل الشيخ عبدالعزيز بن باز -طيب الله ثراه- يقول: ((ونصيحتي لطلبة العلم بأن يحفظوا ألسنتهم من الغيبة لإخوانهم في الله عامة ومن الغيبة لأهل العلم بصفة خاصة عملا بقول الله عز وجل ((وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً))، واتقاء لما في الغيبة من الشر العظيم والعواقب الوخيمة ولا يستثنى من ذلك إلا ما دلت الأدلة على استثنائه وهي أمور ستة جمعها بعضهم في بيتين فقال: الذم ليس بغيبة في ستة *** متظلم ومعرف ومحذر ولمظهر فسقاً ومستفت ومن *** طلب الإعانة في إزالة منكر)). ولو رصدنا الواقع واستقرأنا الساحة الفكرية لوجدنا بأن هناك من ينتقص من العلماء ولكنهم قليل ومع ذلك نجد من ينكر عليهم ويناصحهم وربما يشتمهم!، لكن في المقابل نجد من يأكل لحوم المختلفين معه وربما بالغ وبرر لنفسه هذا الخطأ ليجعله خطيئة حينما حكم على المختلف معه فقهياً بأنه “فاسق” وعليه فتجوز غيبته!. ومع ما رأيناه من غيبة وأكل للحوم إلا أننا لم نجد أي أحد ينكر أو ينصح ولو بكلمة أو مقالة إلى هؤلاء الشباب الذين خرجوا من محاضن تربوية يفترض منها أنها ربتهم على خلاف ما رأيناه منهم، ولذا لو مررنا سريعاً على الإنترنت -مثلاً- وقرأنا مما فيه؛ لورد إلينا السؤال التالي: أين نجد الغيبة أكثر وعند من؟، فهل وجودها وانتشارها في وسط يفترض منه أن يكون هو القدوة دليل على السلامة والصحة؟!، أم دليل على سوء التربية والتوجيه؟!، بل ونرى أحياناً التبرير والتحريض لمزيد من الأكل في تلك اللحوم غير المسمومة لدى هؤلاء، وكأنها لحوم مذبوحة على الطريقة الإسلامية ويستحب أكلها بكل أنواع الطهي طبخاً وشياً والتفنن في تقديمها للضيوف الكرام!. وإذا كانت الغيبة خطأ فالسكوت عليها خطيئة، والتبرير لها كبيرة، والتحريض عليها جريمة، ومع ذلك لم نجد في ميداننا الفكري وساحتنا الشرعية فتوى واحدة من تلك الفتاوى “اليومية” أو بياناً واحداً من تلك البيانات “السفرية” من يكشف الحالة ويرصد الخطأ ويبين الخطيئة ويظهر الجريمة ويكافح هذه التهورات التي شاركت في تفلت عقال الصحوة ونقض غزلها بيد ابنائها. فلم يسلم من تلك الألسن والأقلام لا ملك ولا أمير، ولا كبير ولا صغير، ولا راعٍ ولا رعية، ولا حي ولا ميت، ومع جميع ذلك فالسكوت يعم الأجواء، والويل والثبور وعظائم الأمور لمن نبه على هذا الأمر وقال لأهله رفقاً وعلى رسلكم واتقوا الله في أنفسكم!. لكن في المقابل لو قمت بمجرد الوقوف على بعض الأخطاء العلنية والنصيحة الأخوية والمناقشة العلمية لبعض طلبة العلم فحينئذ فقط تثور تلك الثائرة وتتسابق السهام العاثرة من أجل ذلك الفرد المعصوم فعلياً بعملهم ولو كان غير ذلك نظرياً بقولهم، وهنا تتكشف مواطن الخلل وتظهر حقيقة الزلل. وإنني على يقين بأن الحق لا يمكن أن يتحقق إلا عندما ننعتق من جميع سلطات الهوى والبشر الإدارية والحزبية والجماهيرية والمناطقية والقبائلية، وتبقى العبودية لله وحده لا شريك له؛ فهي الحق وبها تتحرر النفوس المستعبدة. [email protected]