ليس من السهل على صحفي أن يأتي لزيارة الهيئة الملكية في الجبيل دون ترتيب مسبق، وكان للصديق محمد عبيد الفضل دور هام في التنسيق مع العلاقات العامة في الهيئة حيث حددت الموعد في الثامنة صباحا ما يعني التحرك من الدمام مع السادسة تفاديا لأرتال من السيارات التي يتنافس سائقوها على الوصول مبكرا إلى أعمالهم. في البوابة الأولى كان رجل الأمن يسأل عن الاسم ويتفحص رقم لوحة السيارة وفي الثانية ظل رجل الأمن يردد أسماءنا ليزيل الحاجز الحديدي وفق تقنية عالية الجودة تشعرك منذ الوهلة الأولى أنك داخل إلى منطقة غير قابلة للاجتهادات ولا للعبث أو التهاون أو التقصير أو حسن الظن. فريق من العلاقات العامة في انتظارنا وفي ظل حفاوة وكرم الاستقبال كنت مهموما بالسؤال عن التلوث خصوصا أن عددا من الزملاء والأصدقاء أثاروا ملف تعرض أهالي الجبيل لأمراض الربو وضيق التنفس بسبب ما ينتج عن الصناعات من عوادم ومخلفات ملوثة، وللحق فإن فريق العلاقات العامة في الهيئة الملكية يعمل ضمن خطة عامة إذ لا مجال للثرثرة وفائض الكلام. لم نكد ننته من تلقي شرح مبدئي مع فنجان القهوة حتى عرض علينا الفيلم المعد للزوار والذي يحكي قصة الجبيل والهيئة وبانتهاء الشرح النظري انتقلنا إلى جولة على المبنى للوقوف على شرح عملي وبما أن قضية التلوث حاضرة في الذهن فقد طرحتها «عكاظ» أكثر من مرة على مسؤولي العلاقات وعلى مدير التخطيط الاستراتيجي وتطوير الاستثمار المهندس عبدالعزيز عطرجي. لماذا الهواجس فريق العمل في هيئة الجبيل تساءل عن سر اهتمام «عكاظ» بقضية التلوث و.. «لعل التلوث وهواجسه أكثر ما يؤرق سكان مدينة الجبيل ذلك أن مدينتها الصناعية (الجبيل1) تحتوي على ما يزيد على 33 مصنعا وتحت التوسعة مصنعان فيما تضم (الجبيل2) خمسة مصانع ويعمل في الجبيلين ورأس الخير قرابة مائة ألف من العناصر البشرية ومع عائلاتهم يصلون إلى 170 ألف نسمة يسكنون بصفة دائمة ناهيك عن 70 ألف يجيئون للعمل وينصرفون بصفة يومية ويظل التوازن البيئي هاجسا لكل من يعمل هنا». الأقل تلوثاً لم يكن الرد غائبا إذ أكد المسؤولون في الهيئة الملكية أن الهيئات والمؤسسات المعنية برصد البيئة تؤكد أن الجبيل من أقل المدن تلوثا وضجيجا خصوصا أن معايير رصد التلوث يتم تحديثها كل خمس سنوات. وبحسب المراقبين فإن التوجس من التلوث يظل قائما كون الاختلال البيئي يتجلى بوضوح في المناطق التي تتركز فيها الصناعات الكيميائية كون المصانع تبث الغازات الكبريتية وغيرها من الملوثات الضارة في الهواء ما قد تنجم عنه حالات مرضية أبرزها الربو اذ كلما تراكمت الملوثات الصناعية الناتجة عن التصنيع ومكثت فوق سطح الأرض تتسبب في صعوبة التنفس وزيادة في السعال أو الرشح والتهاب العيون وهذا ما يبدو جليا عند الاطفال وكبار السن. خفض الانبعاثات أكثر من مسؤول في الهيئة الملكية أكد ل «عكاظ» أن خفض انبعاثات الملوثات في الهواء جزء من منظومة العمل في المدن الصناعية. إضافة إلى ترشيد استهلاك الطاقة في المصانع القريبة من الوحدات السكنية عن طريق التخطيط السليم للمنشآت الصناعية المساهمة في تخفيض حدة تلوث الهواء برفع كفاءة استخدام الطاقة الكهربائية وانتاج المواد الكيميائية باسترجاع الملوثات وتحويلها الى مواد نافعة كما هو معمول به في بعض الدول الى جانب زيادة مساحات الحدائق العامة والمتنزهات وزرع الاشجار على حافات الطرق لأن الاشجار تضفي جمالا طبيعيا وتنقي الهواء من نسبة كبيرة من الغبار والجسيمات المعلقة وتمتص كميات مقدرة من الغازات الضارة وتنتج الأوكسجين الضروري للكائنات الحية. جودة المياه خصصت الهيئة الملكية قسما لإدارة حماية البيئة منذ عشرين عاما تقوم بتطبيق برنامج المحافظة على البيئة في المدينتين الصناعيتين الجبيلوينبع لتحقيق توافق بين البيئة والصناعة، ومن مهامها المراقبة البيئية متمثلة في رصد جودة الهواء ومتابعة الارصاد الجوي لتحديد مصادر التلوث في المدينة وقياس تركيز ملوثات الهواء لمقارنتها بالمعايير البيئية المعمول بها في الهيئة ويتم تحديثها ذلك أكثر من مرة لمواكبة تطور المدينة ومتطلباتها، كما تقوم بمراقبة جودة المياه سواء مياه الشرب أو مياه الشواطئ القريبة من المدينة، ومياه البحر الداخلة والخارجة لتبريد المصانع والمياه الجوفية وكذلك مراقبة مياه الصرف الصحي والصناعي والمياه المعالجة التي يتم استخدامها لأغراض الري كما يتم أخذ عينات بانتظام وتحليلها في مختبر الهيئة الملكية المجهز بطاقم كيميائي متخصص ومزود بأحدث أجهزة التحاليل لتقويم جودة المياه وتركيز المعادن الثقيلة والمركبات العضوية إضافة إلى مراقبة الضجيج. تفتيش دوري وفي هذا الشأن أعدت الهيئة الملكية برنامجا لمراقبة الضجيج البيئي في المنطقة السكنية والصناعية بالجبيل الصناعية، وتتم مراقبة الضجيج بواسطة أجهزة قياس الضجيج اليدوية لمطابقتها مع المعايير البيئية المعتمدة للمدينة. كما يتم التفتيش على المرافق الصناعية ويرتكز مبدأ التعامل مع المصانع في مجال المحافظة على بيئة الجبيل على التعاون والمبادرة في تذليل العقبات وتنفيذ توجيهات الهيئة الملكية والأنظمة البيئية المعتمدة وتجسد لائحة الهيئة الملكية لحماية البيئة دليلا ملموسا على نوع هذه العلاقة ويتم التفتيش الدوري لعمل المصنع ومتابعة إدارة النفايات الصناعية وفق جدول زمني حسب نوع وطبيعة عمل المصنع، والاجراء الأساسي هو أن تتم زيارة سنوية لكل مرفق صناعي، ويتم تقييم المشروعات الصناعية من الناحية البيئية ودراسة مدى التزامها بتطبيق المعايير البيئية المعتمدة لدى الهيئة الملكية وفق نظام محدد لكل مستثمر يجب عليه اتباعه قبل الشروع في بناء المصنع ولا يمكن الحصول على الموافقة إلا بعد تزويد الهيئة الملكية بتقرير معلومات بيئية قبل ستة أشهر من البدء في الانشاءات بالنسبة للمصانع الأساسية والثانوية وبعض الصناعات الخفيفة يوضح مدى تأثيرها المحتمل على البيئة. الهيئة تتجاوز تحدي الفيل الأبيض عندما سمعت صحف عالمية عن مشروع الهيئة الملكية أطلقت على الفكرة مصطلح الفيل الأبيض كنوع من التحدي لهذا المشروع بل راهنوا على فشله وأكدوا استحالة إقامته مهما بلغت الإمكانات. إلا أن الهيئة حولت الغاز الناتج عن استخراج البترول إلى صناعة بعد أن كان مهدرا، ومدت أنابيب بطول 1170 إلى ينبع لنقل البترول والغاز، وبعد أن كان الغاز يحترق ويتبخر أصبح شريانا حيويا لصناعات وموارد اقتصادية معززة للاقتصاد الوطني مع النفط وحققت الهيئة الكثير من أهدافها الماثلة للعيان. وعادت الصحف التي كانت تتحدى، تشيد بالمشروع ومنحوا جائزة للجبيل كأفضل مدينة صناعية، ولعل إحدى أسرار النجاح ترؤس الملك فهد بن عبدالعزيز للهيئة ووجود شخصيات بحجم غازي القصيبي وهشام ناظر إلى جواره إضافة إلى تخصيص ميزانية مستقلة للهيئة ومنحها صلاحيات التوظيف وإدخالها دائرة الاستثناءات، كل ذلك أسهم في قيام صرح اقتصاي يسهم في تزويد العالم بالكثير من الاحتياجات الأولية للصناعات والصناعات التحويلية ولم تنفق الهيئة على بنيتها التحتية حتى اليوم سوى 60 مليارا فيما تجاوز المردود الاستثماري في «الجبيل1» أكثر من 500 مليار ريالا، فالريال المدفوع في الجبيل يجلب ما بين 16-18 ريالا، كمردود استثماري. فيما بلغ حجم الانفاق على (الجبيل2) 16 مليارا فقط، وعائد الاستثمارات حتى اليوم تقارب 290 مليار ريالا، وفي رأس الخير محطة ثالثة لمشاريع التعدين والفوسفات وبلغ الاستثمار فيها حتى اليوم 130 مليارا. 3 جوائز عالمية للمدينة النقية من الشوائب عملت الهيئة الملكية للجبيل وينبع منذ إنشائها على إحداث توافق تام وانسجام متكامل بين التطور الصناعي والمحافظة على البيئة، ومن أهم المرتكزات للمحافظة على البيئة هو برنامج المراقبة البيئية، ولضمان استمرارية التوازن بين البيئة والصناعة للحفاظ على الموارد الطبيعية والحد من التلوث للحفاظ على صحة القاطنين، فقد أولت الإدارة العامة للهيئة الملكية بالجبيل اهتماما كبيرا ببرنامج حماية البيئة وأنيط بإدارة حماية البيئة مسؤولية تحقيق أهداف ومهام برنامج حماية البيئة في مدينة الجبيل الصناعية. ودعمت هذا البرنامج بالأجهزة المتطورة وفقا للمعايير الدولية المعتمدة والقوى البشرية المتخصصة وتم تزويد مختبر الهيئة الملكية للفحص البيئي والصحة العامة بأجهزة حديثة لإجراء التحاليل السريعة والدقيقة على عينات المياه والمواد الصلبة للكشف عن محتوياتها وتشتمل إمكاناته على الفحوصات الفيزيائية والتحاليل الكيميائية لأيونات المعادن والهيدروكربونات والمبيدات والزيوت والشحوم والمواد العضوية وغير العضوية وكذلك إجراء الاختبارات البكتريولوجية والكشف عن الطفيليات وتتم عملية الفحص البكتيري والطفيلي لمراقبة جودة مياه الشرب ومياه مرافق الترفيه ومياه الري، وتساعد أيضا على تحديد مصادر التلوث البكتيري. إضافة لغرس روح المسؤولية لدى الناشئة ورفع مستوى الوعي البيئي في المجتمع وتطبيق برنامج التثقيف في 48 مدرسة وروضة تقدم الخدمات التعليمية لأكثر من 21 ألف طالب وطالبة في الجبيل الصناعية ما توج جهود الهيئة الملكية بحصولها على ثلاث جوائز عالمية مرموقة هي جائزة ساساكاوا الدولية لحماية البيئة من هيئة الأممالمتحدة عام 1408ه، جائزة المنظمة الإقليمية لحماية البيئة البحرية عام 1408ه، جائزة منظمة المدن العربية عام 1415ه. ثقافة عمل بدون دفتر حضور.. لا توقيع ولا بصمة يثير العمل في الهيئة والمدن الصناعية أسئلة كبرى لمن يدخلها متأملا ومقارنا، وكنت ألح على مدير عام التخطيط الاستراتيجي في الهيئة الملكية المهندس عبدالعزيز نور الدين عطرجي ليفشي لي بوصفة النجاح وسر التفوق، فقال لدينا ثقافة عمل تقوم على خطة عامة لا يمكن لكائن من كان أن يغير فيها ولو وقفت معي على بعض المواقع التي تراها خالية من البناء لقلت لك متى ستبنى ولماذا، حتى عام 2030، فالخطة ترسم استراتيجية لكل شبر في موقع تصل مساحته 1016كم مملوكة للهيئة، والبنية التحتية جاهزة لجبيل 3 و4 بحول الله من خلال مهارة القائمين على الرؤى الآنية والمستقبلية، ومن ثقافة العمل أن الكل يحضر قبل السابعة والبعض ينصرف مع الرابعة والبعض يستمر دون وجود دفتر دوام ولا توقيع حضور وانصراف ولا بصمة ولذا نجح الشباب السعودي في ضرب أروع الأمثلة في الانضباط والعمل وقلبوا المعادلة كونهم عندما جاؤوا للهيئة منذ أربعين عاما كانوا مائة سعودي مقابل 1800 أجنبيا واليوم يعمل في الهيئة 3800 سعودي و300 أجنبي فقط.