ذكرت في المقال السابق أن أهم عامل في إزالة وصمة العار عن من يعانون من المرض النفسي والعقلي التي تتسبب في عزل المريض وحرمانه من خبرات الحياة الطبيعية هو النظر للمرض العقلي والنفسي كمخاض روحي وحتى ما يعرف بالتلبس الشيطاني كان للدكتور ستانيسلاف جروف تجربة معه أثناء عمله في مستشفى للأمراض العقلية فكانت هناك حالة مستعصية لمريضة لم يجد معها أي علاج ولما قام بجلسة تنويم مغناطيسي لها تفاجأ بصوت ذكوري يحدثه على أنه الشيطان ويهدده ويهاجمه بعنف وبذاءة، فترك الحالة تخرج كل ما في نفسها من عنف لفظي وجسدي، ولم يرد عليها بشيء ولم يقم بأي إجراء ديني لكنها شفيت تماما بعد هذه الجلسة، فإتاحته المجال لها لتخرج تلك الشحنة الانفعالية الهائلة شفاها، بينما غيره من الأطباء كانوا فورا يقومون بتخديرها وتقييدها وعزلها وهذا فاقم حالتها، وعموما حتى أكثر الأمراض النفسية انتشارا وهو كالاكتئاب يمكن رؤيته كحاضنة للمخاض الروحي فالدكتورة جوديث أورلوف أستاذة علم نفس بجامعة كاليفورنيا أصدرت كتابا تناولت فيه الاكتئاب تحت عنوان «الاكتئاب كتحول روحي» ووجهت نقدا حادا للتوجه السائد لدى علماء النفس بالنظر للاكتئاب على أنه مجرد خلل في كيميائيات الدماغ وأن هذا التسطيح بالتعامل مع تعقيد الذات الإنسانية وإهمال الجانب الروحي هو وراء وصول مرضى الاكتئاب للقنوط والانتحار، والاكتئاب قديما اعتبر كمرحلة من مراحل التطور الروحي وسمي بالإنجليزية «The dark night of the soul- ليل الروح المظلم» وتعود هذه العبارة للراهب الإسباني جون الفاريز القرن السادس عشر الذي كتب شعرا شبه فيه حالة الاكتئاب التي كان يعاني منها بليل مظلم للروح تتمخض عنه ولادة روحية، وفي تراثنا أعظم وصف لهذه الحالة قدمه الإمام الغزالي في كتابه «المنقذ من الضلال» الذي وصف فيه تجربته مع اكتئاب شديد أصابه وهو في أوج شهرته والخلفاء يتنافسون على استضافته، واستمرت نوبة الكآبة لستة أشهر ونتج عنها أعراض «سيكوسوماتيك نفسجسدية» وهي أعراض جسدية منشؤها نفسي، ففقد القدرة على الكلام لأنه كان يجبر نفسه على متابعة التدريس، ونقل تشخيص الأطباء بأن سبب حالته نفسي روحي، فترك كل شيء وبدأ رحلة بحث روحية فكرية شافته مما أصابه. وأخيرا يبقى أنه من المهم توفير مجمعات إسكان دائم لمن يعانون من الأمراض العقلية المزمنة الذين لا يمكن إبقاؤهم بالمستشفى، وتركهم مع أهاليهم يعني تعرضهم للتقييد والحبس أو تشردهم في الشوارع وإقدامهم على قتل الأهل.