شغلت الصحافة أخيرا بقضية انتحار الأستاذ الجامعي المتخصص في الآثار الإسلامية في جامعة أم القرى، ويبدو أن السبب المرجح وراء الحدث هو معاناته من «الاكتئاب الجسيم» حسب تصريح طبيبه النفسي «عكاظ» 24/10/1430» وهنا يجب أن نتوقف طويلا عند هذه الكلمة «الاكتئاب» التي باتت تعني أن الإنسان يعاني من خلل في توازن كيميائيات الدماغ وبالتالي تتم معالجته بالعقاقير للسيطرة على أعراض الاكتئاب، أما الشفاء الكلي، فالعقاقير لوحدها لا تحققه، لكن هل هذه هي حقيقة الاكتئاب أم أن هذا الخلل في كيميائيات الدماغ هو مظهر للمشكلة وليس مصدرها؟ إنه ذات سؤال هل الوعي يتولد عن الدماغ أم أن الدماغ ترجمان للوعي الذي مصدره الكيان المتجاوز للدماغ أي الروح؟. الدكتورة.. جوديث أورلوف أستاذة علم نفس من جامعة كاليفورنيا لوس انجلوس.. أصدرت كتابا أخيرا تناولت فيه الاكتئاب كما عنونت «الاكتئاب كتحول روحي»، وتناولت فيه بالنقد الحاد التوجه السائد للنظر للاكتئاب على أنه مجرد خلل في كيميائيات الدماغ وأن هذا التسطيح في التعامل مع تعقيد الذات الإنسانية وإهمال الجانب الروحي هو وراء وصول مرضى الاكتئاب لليأس والانتحار، وترى أن الاكتئاب يمثل مخاضا للعمق الروحي للإنسان، وهو يمثل ما يعرف في التعبير الشائع في الإنجليزية «The dark night of the soul- ليل الروح المظلم» وتعود هذه العبارة للراهب الإسباني جون الفاريز القرن السادس عشر الذي كتب شعرا شبه فيه حالة الاكتئاب التي كان يعاني منها بليل مظلم للروح تتمخض عنه ولادة روحية، وفي تراثنا الإسلامي أعظم وصف لهذه الحالة قدمه الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه «المنقذ من الضلال» الذي وصف فيه تجربته الشخصية مع حالة اكتئاب شديد أصابته وهو في أوج نجاحه العلمي والمادي والخلفاء يتنافسون على استضافته في بلدانهم ومجلسه عامر بالطلاب، واستمرت نوبة الكآبة الشديدة لستة أشهر حتى نتج عنها ما يسمى بالأعراض «السيكوسوماتيك النفس جسدية» وهي أعراض جسدية منشأها نفسي، ففقد القدرة على النطق لأنه كان يجبر نفسه على متابعة التدريس رغم شدة كآبته، وفقد الشهية وأصابه الضعف «حتى قطع الأطباء طمعهم من العلاج وقالوا: هذا أمر نزل بالقلب.. فلا سبيل إليه بالعلاج، إلا بأن يتروح الهم الملم». أي رأيهم أن أصل كآبته أمر روحي، وكانوا على حق، فقد وصف الغزالي أنه في تلك الفترة كان في نفسه الكثير من المراجعات حول حياته، وأخيرا قرر بدء رحلة البحث عن العمق الروحي الذي أدرك أنه كان يفتقده بالرغم من تدينه ومكانته وعلمه الشرعي الواسع فشفي من الاكتئاب.. فالاكتئاب مصدره عدم تحقيق الإنسان للإشباع اللازم لبعد من أبعاد ذاته وبخاصة البعد الروحي، والتدين الظاهري يحتاج للعمق الروحي لكي يحقق الإشباع الروحي الذي به تكون الوقاية والعلاج للاكتئاب كما قال النبي عليه السلام بأن الإيمان محله القلب وأشار إلى صدره (قالت الْأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخلِ الْأيمان في قلوبكم)، والإيمان هو العمق الروحي للعقيدة وهو العمق المفقود كثيرا في عصرنا، ولهذا شاع الاكتئاب حتى لدى المتدينين. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 217 مسافة ثم الرسالة