ما الذي أيقظك في خيالي يا فتاة الكنغو الآن..! لم بعد كل هذه السنوات والحقب تقفين الآن أمامي.. ! وأنا أفتح نافذة الذات لأمارس ما اعتدت على القيام به بشكل روتيني كل يوم.. هنا في هذه الغرفة الخافتة الأضواء.. من أين نبت خيالك في ذاكرتي وقد وطنت نفسي منذ أمد بعيد على دسه عميقا في حافظة الروح ولم أسمح له أبدا بأن يطل، مجرد إطلالة، في حاضري.. فقد مضيت عنك مخلفا الوعد بعودة وشيكة ترسم لنا فرح الأيام.. ولكن ذلك مات كله.. والحلم وئد.. فمن أين طلعت لي الآن.. يا زهرة خط الاستواء.. وخصلة الشمس في جبين الصحراء. تتداعى إلى خاطري الذكريات الآن تباعا.. هل جئت تسألين لم لم أف بوعدي.. وأعود إليك في قاهرة المعز.. تلك قصة طويلة.. خذي مقعدك هناك في دائرة الضوء تلك يا نجاة.. يا بنت مشعل النضال الأفريقي الصميم في قبل أفريقيا.. شرف لك أن تكوني ابنة الجسور «باتريس لوممبا».. عنوان الكنغو ورمز نضالها ضد الاحتلال البلجيكي آنذاك.. فمجيئك اليوم في هذه الساعة حتما ليس لسماع هذه القصة، ولكن لمعرفة أين انتهى الحلم.. وكيف ولم.. سأحكي لك ما لم أروه لأحد غيرك.. سأكون صادقا ومباشرا حد الجرأة.. وواضحا كيفما تتطلب الشفافية. كان القلب بكرا يوم أن قررت الرحيل من ربوع مكة إلى القاهرة طلبا للعلم.. لكنني يومها لم أخبرك عن مجتمعي، وعن سنواتي السابقة المسيجة بعادات وتقاليد مرعية ومتوارثة.. مجتمع يحفظ المسافة بين الرجل والمرأة بشكل منظم ومرتب لا يشذ عنه أحد ووالد يراقب بشدة وحزم كل ما يجري في محيطه ودائرة اهتمامه.. ولا يحتمل أي خرق لهذا الناموس المكاوي.. كانت المرأة في خاطري حاضرة في صورة جدتي وأمي وأخواتي.. بشعور لم أختبره بأي صورة من صور الاختبار، وإنما هو شعور طبيعي متوارث، تحسه شيئا مطبوعا فيك، ولا تحتاج إلى أن تظهره أو تخرجه في لحظة حزن أو فرح أو انفعال لتدرك بوجوه أو تلمس حقيقته فيك.. هكذا مضت بي الأيام لا أذكر منها شيئا خارج المألوف اليومي سوى ما يطرأ من فرح عابر.. أو موت ورحيل حزين.. وكلها عوارض يومية وموسمية طوعنا النفس على أن نتقبلها بالاطمئنان إلى القدر خيره وشره، بوافر الحمد والتسليم.. هل أصب لك من هذه القهوة فنجانا..؟ آه تذكرت أنك تفضلين الشاي على القهوة.. لم أنس عادتك.. أبدا.. نعم يا نجاة.. كنت إلى السلوك القروي الساذج الفطري البسيط أقرب ما أكون منه إلى السلوك المدني المتحضر.. هذه حقيقة أدركتها منذ أن تحركت من مكة في رحلة البحث عن العلم في قاهرة المعز.. ألم أحدثك كيف أنني حينما استقر جسدي في الطائرة، وجاءت المضيفة بطاولة الطعام إلي، ووجدت من بينها قراطيس عبئت ملحا وفلفلا لمن يرغب، فحسبتها مثل تلك التي تغدق بها علي جدتي ونسميها (تفاسيح)، ففتحتها ودلقتها في فمي، لتشتعل النار فيه، وينشغل من حولي بمحاولة لملمة ما بعثرته من طعام، وما أحدثته من فوضى.. موقف جعلني أتضاءل في كرسيي بالطائرة خجلا.. وأنتظر اللحظة للهروب من العيون الفضولية والساخرة التي تتهامس حولي ضاحكة.. أتذكر تلك اللحظة الآن بمزيج من الخجل العابر، والسخرية من نفسي.. ولم يكن ذلك الموقف وحده الساخر في تلك الرحلة العجيبة.. فعند هبوط الطائرة أخذت طريقي إلى الخارج دون أن آخذ حقائبي.. وحين سألني جدي لوالدتي الذي كان ينتظرني عنها، أخبرته بأني كتبت عليها اسمي وعنواني وسيقومون بإيصالها إلي في مقر إقامتي في الشقة التي استأجرها زميلي الذي سبقني إلى القاهرة.. فردني ردا رفيقا ساخرا وأمرني بالرجوع إلى داخل الصالة وإحضار حقائبي فهذا هو النظام.. لا تضحكي من ذلك.. فقد كانت تلك أولى رحلاتي خارج محضن البيت الحرام.. والأرض الطاهرة المقدسة.. جئت إلى الجامعة.. وتفتحت عيناي على كون لم أعرف له مثيلا.. ولم أعد له عدته.. ولم أهيئ نفسي لخوض غمار تجربته.. كل شيء كان مخالفا للبيئة التي جئت منها.. الناس مقبلون على الحياة في القاهرة كما لو أن الموت ناموس معطل.. أو حالة استثنائية.. بينما هناك في بيئتي كان الموت والاستعداد له هو الأصل.. والحياة كأنها أمر طارئ.. فلا نأخذ منها إلا ما يكفي لرحلة العبور.. الطعام غير الطعام.. الهواء غير الهواء.. الخضرة غير الخضرة.. والنساء.. النساء غير النساء.. تلك كانت معضلتي.. ومناط دهشتي.. جئت من بيئة جعلت منظر المرأة في عيني محفوظا في الثالوث؛ جدتي، أمي، أخواتي.. لكن هناك في القاهرة كان للمرأة طعم مختلف في عيني.. جمال مسرح بلا كوابح.. فتنة قائمة بلا إطار.. رونق يملأ العين ويفيض في الجوانح.. داخلتني الرهبة.. وكبلتني الدهشة.. وحاصرتني نوازع الفيوض المكاوية في داخلي.. أأقبل على الحياة القاهرية كما هي.. أم أدبر إلى الحرز المكاوي الشديد.. في المدرج.. كنت خائفا أترقب عيوني لا تكاد تستقر في محاجرها تمسح المكان والأشخاص علامة شاذة في وسط الطلاب.. اتخذت ركنا قصيا.. وفضلت الاقتراب على حذر.. إلى أن جئت ناحيتي.. ما الذي ساق خطاك إلي.. ما الذي جرأك على تجاوز هذه الأسوار العالية التي ضربتها حول نفسي، وآثرت أن أطل على العالم الجامعي منها.. رأيتك وقتها.. فبدوت لي أطول شجرة أبنوس في غابة استوائية كثيفة.. رأيتك زهرة شمس تتعالى في تعامد كامل أمام خط الاستواء بكل انفعال شمسه الباهرة.. رأيتك سحرا وطلاسم أفريقية ما لها من مفسر غير حكيم طاعن في السن.. في صومعة منقطع.. قوامك يتسنى في كبرياء واختيال.. وجهك مزحوم بعينين واسعتين.. حوراء.. شفاهك رقت في لحظة الهمس وذابت سكرا في لحظة الضحك المعافى الجميل.. شعرك انسدل خصلات تائهات.. جبينك تنعكس عليه أضواء المدرج فيكتب سيرة الوله في داخلي.. جمعتنا حروف أسامينا فكنا في فصل واحد ومقعدين متجاورين.. تحدثت لي عن وطنك وكفاح أبيك.. وأنك ابنة مجد مؤثل.. وسلسلة أمجاد أحرار.. ووريثة أب نذر نفسه لتحرير قومه.. فما أعظمه من أب وما أنبلك من ابنة.. لا تبكيه الآن فذكرى من نفقد تبقى عزيزة وغالية.. لقد عرفت عن أباك الكثير لاحقا.. سأحدثك عن هذا، فقط دعيني أكمل لك الحكاية، لتعرفي أني ما خنت عهدي، ولكن عاندتني الظروف.. نعم.. بك عرفت معنى الأيام في الجامعة، وصار لوجودي قيمة وأنا أحس بك دافئة في قلبي.. نعم أحببتك.. أحببت فيك جرأة الإقدام، وسلامة المسعى، وحسن الطوية، وأنت تأخذين بيدي وتفكين لي مغالق الدروس وبخاصة في اللغة الإنجليزية التي عصت على لساني وقلمي، فإذا أنا بعد عونك مجيد لها.. كنت شغوفة بي، وكأنما كان شغفك ممزوجا بالشخصية والمكان الذي انحدرت منه.. سألتني عن مكةالمكرمة، ولمحت أطياف الشوق إليها في عينيك.. شوق لم نجربه لطول عهدنا بالبيت.. وكأنما صار القرب حجابا.. جعلتني أوقن أنه رب قريب بعيد ورب بعيد قريب.. نعم يا نجاة يا بنت باتريس لوممبا.. أحببتك بكل ما في.. وعقدت العزم على أن تكوني رفيقة حياتي.. كنت فرحا بذلك.. وسربت إليك فرحتي ومحبتي وشعوري.. فوجدت شجرة شوقي قد نبتت في طمي قلبك.. كنت الوحيدة في كل الجامعة القادرة على أن تهبي لنبضي طاقة حركته اليومية، والوحيدة التي بيدها أن تمسك بشجرة روحي وتهزها كيفما تشاء.. تحولت القاهرة في عيني إلى «نجاة باتريس لوممبا».. لم أكن أحتمل الانتظار.. فاتحتك في أمر الزواج.. فقبلت بفرح المحب.. وكان اللحظة المرجوة.. طرت إلى شارع عدلي بالقاهرة طلبت مكالمة مستعجلة من القاهرة إلى مكةالمكرمة.. ودفعت كل ما أدخرته لبقية شهري الصوت في لهاثه يرتفع.. والوجيب يزداد.. وصوت أبي يأتيني من هناك سائلا عن بشرى الدراسة.. فنقلت إليه بشرى حبي.. ورغبتي في الزواج من صبية كنغولية سليلة مجد ووارثة نضال.. فما زاد على أن قال بعد صمت حسبته دهرا... - (يصير خير) (لا تستعجل) (لابد من عمل الخيرة) ولابد أن نسأل عنها أولا ومن أي البيوت هي.. قلت له بوجل إنها من أفريقيا ابنة الزعيم باتريس لوممبا سكت بغتة وفجأة سألني هل تشبه أباها وبعفوية قلت له إنها أحلى من القمر والكواكب والنجوم عيونها واسعة وأنفها مستقيم وشعرها ناعم وأنهى المكالمة دون إعطائي جوابا قاطعا وبقيت بين الحيرة والألم والخوف والرجاء وغلبني النوم وعشت أحلى أحلامي وأنا أتأبط ذراع (نجاة) في ليلة فرح، ولم ينته يومي إلا وأبي أمامي شخص حاضر بطوله وقوامه وشخصيته عانقني بحب وسألني عن دراستي وسألته عن سبب مجيئه فقال لي بثبات كل الأماكن مشتاقة لك وحشتهم أمك وجدتك وإخوتك يومين تشوفهم وترجع.. لم يتعودوا على فراقك بعد! رحلت سريعا، وقد تركت بذرة حبي عندك.. وزرعت في خاطري وخاطرك تحقيق الحلم حين عودتي مباشرة.. وهناك في مكة يا «نجاة».. كانت التقاليد والعادات في انتظاري. أخذني والدي من يدي فور خروجي من المطار.. قال كلاما كثيرا عن الفوارق بيننا، وعن اختلاف الأمزجة والمشارب.. بعض القول كان جارحا حد الإدماء.. ما كنت أسمع له؛ بل طار خيالي إليك وأنت تنتظرين حلما ضاع.. وطيفا لن يعود.. حكمتني العادات يا «نجاة».. وقيدتني التقاليد يا بنت «لوممبا»، تزوجت مثلما يتزوج الآخرون، حسب الأعراف، وطبقا لمزاج الأم والأخوات.. لم يكن القلب حاضرا، بل كانت الحياة في اعتيادها ورتابتها هي صاحبة القرار.. هل كان من الممكن تلافي ذلك أو مقاومته..؟ لا تلوميني على شيء.. هذا تيار جارف.. وسطوة ممتدة منذ آماد بعيدة.. صعب أن تعبر الصحراء العربية إلى الغابات الأفريقية دون صراع.. انقطعت عنك.. لأني لم أشأ أن أنكأ جرحك.. فضلت أن أترك لك الحلم ليذوب مع الأيام.. ويتلاشي الألم رويدا رويدا.. انشغلت بتتبع نضال أبيك.. وطفقت أقرأ عنها.. وأتخيل في وحدتي المصير والمآل المنتظر لو قدر لي أن أتزوج بك كنت سأنجب أطفالا ينتمون إلى رجل من سلالة الأنفس النقية الكبيرة، قرأت بفخر قوله: «ليس لي الحق في النوم ومواطني ليسوا سادة مصيرهم. أنا الكنغو.. صنعني الكنغو.. وأنا الآن أصنع الكنغو».. كبرت في نظري كثيرا، وأنت تحملين تلك الدماء الفوارة بالنضال من أجل الوطن، والفادية لمواطنيها، كم من مرة قرأت خطابه الأخير لأمك، خطاب مزج فيه بين رقة الزوج، وصلابة المناضل الجسور.. حتما إنك تحتفظين بنسخة منه، يستوقفني قوله في ذلك الخطاب التاريخي رغم خصوصيته: «إنني أفضل الموت ورأسي شامخ، وإيماني ثابت، وثقتي في مصير بلدي مكينة، على الحياة تحت الاستعباد، وتجاهل المبادئ الجليلة. سيقول التاريخ كلمته يوما ما، لكنه لن يكون التاريخ الذي سيدرس في البلدان التي تخلصت من الاستعمار وأبواقه. ستكتب أفريقيا تاريخها، وسيكون لشمال الصحراء ولجنوبها تاريخ مجد وعزة... لا تنوحي يا زوجتي العزيزة.. إنني أعرف أن وطني الذي يقاسي بهذا القدر الفادح، كيف يذود عن استقلاله وحريته.. عاش الكنغو.. عاشت أفريقيا».. هل قرأت مرثية والدك التي كتبها الشاعر السوداني الراحل صلاح أحمد إبراهيم، ذاك رجل نذر حياته وشعره لأبيك وأمثاله من المناضلين الشرفاء، كتب عنه كثيرا في ديوانه الموسوم ب«غضبة الهباباي».. كثيرا ما أقف عند قصيدته «بين اللحد والمهد»، في رثاء أبيك.. اسمعيه يقول: "الجسم الناحل مستودع آلام الكنغو لا نعلم نحن مدى ما قاسى من أهوال مثل الكنغو لا نعلم نحن مدى ما قاسى من أهوال لا يعلم غير السفاح وأعوان السفاح لا تعلم غير سكاكينِ التعذيب الجسم الناحل تحرثه وتشق جراح لا تعلم غير الوقت بطيء الخطو..؛ مساء صباح لا تعلم غير غيابات السجنِ عذابه لا يعلم غير القبر الأبكم في الغابه أخفوا باليبس عن الإنس ترابه في الليلِ الموغلِ خيفة عينِ رقيب سر واستغلق.. لم يتفلت غير سؤال تذروه الريح هشيما في الأركان ولكن قد نتخيل بعض خيال يتقلص منه نخاع العظم فتسري الرعدة في الأوصال».. لا تبكي يا نجاة.. لا تبكي.. فقط اغفري لي.. فحتى اللحظة لازال حبك يستعر في قلبي وتيقنت صدقا أن المقولة صادقة بأن حبك الأول هو حب الأخير..