أدرك بالطبع أن العيد هو مناسبة سعيدة، ويفترض (ولو نظريا) على الأقل أن تكون موضوعات المقالات الصحفية المنشورة خلال الأعياد هي مما يتماشى مع طبيعة المناسبة؛ وربما من الأفضل أن تساهم في إشاعة روح الفرح بين (قراء العيد)، ولكنني مضطر مع الأسف لمخالفة هذه القاعدة في مقال اليوم، أما السبب فيعود إلى استمرار مسلسل المضايقات التي تمارسها علينا بعض الأجهزة الخدمية؛ تحت ذرائع مختلفة، مخالفة بذلك التوجيهات المستمرة لقيادتنا الرشيدة بتسهيل أمور الناس؛ خصوصا عندما يتعلق الأمر بالخدمات الأساسية. المقدمة (الدرامية) السابقة هي بسبب تكرار المعاناة الموسمية للكثير من أهالي جدة ومكة المكرمة في مثل هذه الأيام بسبب انقطاع المياه، أو ضخها الضعيف في الشبكة، وبالطبع فليس هناك أكثر من الأعذار الجاهزة التي يمكن أن يسوقها مسؤولو المياه لتبرير الانقطاع أو النقص، وقد سبق لي أن أوردت بعضاً من تلك الأعذار في مقال سابق، ويبدو أن موسم الحج أصبح مُبرِّرا إضافيا للتنصُّل من مسؤولية ضخ المياه بالقدر الكافي؛ بذريعة وجود أعداد كبيرة من ضيوف الرحمن في المشاعر المقدسة، وبالتالي فإن قسماً كبيراً من إنتاج تحلية جدة يتم توجيهه لحجاج بيت الله الحرام. والأكيد هو أننا نتشرف؛ بلاداً ومواطنين، بخدمة ضيوف الرحمن، ولن نتوانى عن بذل الغالي والنفيس في سبيل راحتهم وتمكينهم من أداء مناسكهم بكل يُسر، ولكن استخدام موسم الحج كذريعة للتقصير في توفير خدمة أساسية كالماء هو أمر مرفوض، لأن موسم الحج لم يأتنا فجأة!، وكان حريٌ بالمؤسسة العامة لتحلية المياه وشركة المياه الوطنية أن تستعدا له جيداً، أسوة باستعدادات جميع أجهزة الخدمات الأخرى في البلاد، التي تباشر تجهيزاتها مبكراً قبل بدء الموسم بأشهر عديدة، لذلك فإن عذراً كهذا لن يساعد على حل المشكلة الحالية، ناهيك عن منع تكرارها في المستقبل. ورغم تطبيقي (طوعياً) للعديد من الاحترازات التي تحد من هدر المياه في منزلي، إلّا أن ضعف كمية المياه التي وصلت لخزان المنزل خلال الأسبوعين الماضيين، لم تكفِ حتى للاستخدامات الضرورية، ما اضطرني لشراء وايت ماء من الأشياب، والغريب أن يحدث هذا رغم أن عدد أفراد أسرتي محدود، ولا يتجاوز 5 أشخاص، فكيف هو حال الأسر الكبيرة؟، أو الساكنين في عمائر تضم العشرات من الأشخاص في العديد من الشقق؟؛ الذين يتشاركون في مصدر مياه واحد هو الخزان الأرضي للعمارة. وحرصاً على الموضوعية، وإعطاء صورة متوازنة عن تحدياتنا في توفير المياه، لا بد من الإشارة هنا إلى أن بلادنا صحراوية المناخ، وتقل فيها مصادر المياه الطبيعية، وهو ما جعلنا معتمدين على تحلية مياه البحر بنسبة كبيرة تصل لنحو 70%، كما تأتي المملكة في المرتبة الأولى عالمياً في «صناعة» المياه المحلاة، في حين يرتفع لدينا معدل استهلاك الفرد للمياه إلى نحو 300 ليتر يومياً؛ وهو ما يعادل ضعف معدل الاستهلاك في دول الإتحاد الأوروبي الغنية بالأنهار!، كما تخصص الدولة سنوياً مبالغ ضخمة لزيادة إنتاج المياه، إلا أن معظم محطات التحلية القائمة تحتاج للتجديد، كما أن الجديد منها يتم تشغيلها بالاعتماد على الوقود البترولي!؛ وهو ما يضاعف من استهلاكنا المحلي من النفط، ويزيد من تلوث البيئة. يتضح مما تقدم أن مشكلة نقص المياه لدينا ليست مالية وإنما إدارية ولوجستية في المقام الأول، كما يعود جانب رئيس من المشكلة إلى أنماط الاستخدام الجائر لهذه الثروة الثمينة، وربما يعود سبب لا مبالاة البعض، ونظرتهم المعنوية المتدنية للمياه، إلى ارتفاع فاتورة الدعم الحكومي لقطاع المياه، وهو ما جعل تكلفتها منخفضة جداً على المستهلكين، ففي حين تدفع الدولة أكثر من 10 ريالات كتكلفة لإنتاج المتر المكعب من المياه (يُعادل 1000 لتر)، فإن سعر بيعه للمستهلك لا يتجاوز 10 هللات!، أو ما يعادل 1% فقط من قيمته الفعلية! ومما يزيد من وطأة هذا التحدي، ارتفاع الطلب على المياه في البلاد بنسبة 5% سنوياً، نتيجة لزيادة الأنشطة الصناعية والتجارية والبلدية، فضلا عن النمو السكاني المتسارع الذي يقدر بحوالي 2.5% كل عام، وكذلك الانخفاض الخطير على مستويات مصادر المياه الجوفية غير المتجددة التي تم استنزاف الكثير منها خلال العقود السابقة في الأنشطة الزراعية، وأذا أضفنا لكل ما تقدم نسبة التسريب المرتفعة في شبكات المياه التي تبلغ حوالي 30%، لأدركنا عمق المشكلة، وضرورة التحرك السريع لاتخاذ إجراءات فاعلة لتجنيب البلد خطر شح المياه، وتخفيض معدل استهلاك البترول في التحلية، وإعادة النظر في تعرفة المياه على نحو يؤدي لترشيد استخدامه. ختاماً، قد يكون من المهم الإشارة في هذ السياق إلى قيامي بدفع غرامة مقدارها 200 ريال لشركة المياه قبل أيام، مقابل تسريب بسيط أمام منزلي؛ ربما لا يتجاوز بضعة لترات، وذلك بسبب تنظيف مدخل الدار بعد موجة الغبار التي ضربت جدة مؤخراً، وفي مقابل ذلك فإنني أتوقع التزام شركة المياه بتوفير الماء في خزان منزلي في مواعيد منتظمة وبقوة ضخ كافية، تُغنيني وأمثالي عن ترك بيوتنا في الأعياد والإجازات لإحضار صهاريج الماء، حتى لا يُصبح عيدنا «ناشف»، وطالما أن المياه متوفره وبكثرة كما يدِّعي البعض، فإن السؤال الذي يفرض نفسه بقوة هو: لماذا تضطرنا الشركة للذهاب إلى الأشياب لطلب المياه وذلك بدلاً عن قيامها بضخها في الشبكة؛ بانتظام وبقوة مناسبة؟!.