بعيدا عن كتبه الأخرى وما فيها من قلق البدايات، تنهض رواية موشكا بتمثيل الكاتب محمد الشحري تمثيلا غير قلق ولا متردد، إذ تظهر عمق ثقافته وتخبر عن صلته بالمكان، لا بعين السائح المراقب المار بطرفه المرتحل، بل بعين عاشقة شاعرة محتفية بما تراه. لا يهتم محمد الشحري بالحكاية، ولا يبدو النص، رغم وجود حبكة بينة، منشغلا ببداية ووسط ونهاية، إذ يتقدم النص، لا بغاية الحكي، بل بغاية الكشف والتعريف. فالنص يشير إلى واقع قاس في منطقة ظفار، تدور الأحداث حول شجرة اللبان. يتركز عمل الراوي كله حول فكرة محورية هي إبراز الألم المقترن بهذه الشجرة، الذي تجاوزها ليشمل البشر والأرض والهواء والنفس في نص استطاع أن يجمع بين تمش سردي بطيء وبين شعرية متفجرة بدت أحيانا متقدمة على كل الجوانب الأخرى. موضوع الرواية مغر وعميق، ولقد استطاع محمد الشحري أن يلتقط من حياة أهله عناصر روايته بكثير من المهارة والعمق، كما تمكن من توفير معلومات مهمة عن طبيعة الحياة وعن رؤيات للوجود فارقة وعن تصورات للزمان وللحياة مختلفة. إن موشكا من جهة اعتبارها نصا يحاور الكينونة الفردية والجماعية فهو بالفعل نص وجود، عبر عن خصوصية محلية، وسار عميقا نحو مناطق أغفلها السرد العربي، فهو يظهر صلة الفرد بمجاله الحيوي من شجر وتراب وصخور وطيور وهواء وخرافات وأطياف وحكايات، وهو منزع افتقدناه في نصوصنا الحديثة. القسوة والآلام فكرتان تخترقان الكتاب، وتعرشان فعلا داخله وتنموان وينبت لهما ثمر، ومن حولهما تنتشر الشخوص لتتعب وتشقى، والراوي ينشغل بما يرى وينقل مرارة الحياة التي تحيط بالثمر المر الذي ننسى ونحن نمضغه صنوف المرارات التي قاساها الناس من أجل تحصيله. وقيام الرواية على فكرتي القسوة والآلام مهمة جدا، ذلك أن النص السردي يحاول أن يكف عن حكي الوجود بما هو قصة مشوقة، بل يحاول أن يقدم الجوهر، وجوهر حياتنا في الغالب ليس غير شقاء يسكن في العروق وروح مرمية بسهام البلى ونفس آكلة ومأكولة. في ظفار قسوة بادية للعيان، هذه حقيقة للعابر، يلاحظها وهو يتحسس طريقه بين الجبال والمساحات الطويلة الفارغة، ولقد عرفت ذلك وعشته وأنا أقيم فيها، مكان يخبئ كل أسراره بمهارة، حين تمد بصرك بعد ثمريت أو أندات، لا تكاد ترى شيئا، ولكنك تعلم أن الحياة تعاش هناك من ملايين السنين. المكان بامتلائه ألهم الكثيرين، لكن المكان الفارغ في الظاهر لم يلهم أحدا. وموشكا تحاور مكانا صعبا وعصيا وتحاول أن تكشفه وتعريه، الشجر على أهميته في الرواية هو أيضا كالإنسان مجرد تعلة، الهدف كشف جوهر الإقامة في الوجود، الكشف عن البنيات التي تحكم نظم الحياة، وهذا هدف لا واع بالتأكيد لكنه قاد الرواية في مسار أدبي مميز ووسمها بسمة التأمل الشعري. يمكن للقارئ أن يقول عن موشكا إنها رواية واقعية، وهي تقدم بالفعل مادة كبيرة الحجم عن واقعها بتفصيل ودقة، حيث نرى أصنافا من المعاناة النفسية والجسدية لعمال حرقت الشمس ظهورهم وأنهك البعد نفسياتهم، فأمسوا في غربة وفي منفى، تغريبة واقعية أحسن الراوي نقلها في أسلوب سردي مؤثر ومقنع، وجعل من حياتهم مادة سردية تلخص وجها من وجوه الحياة. لكن هذا الواقعي كله يأتي مسرودا بطريقة غرائبية، فموشكا الجنية وأنشرون الإنسي شخصيتان لدى الكاتب وهو من يستطيع جعلهما واقعيين أو غرائبيين، لكنه اختار أن يتركهما يتناميان داخل الكتاب، يميلان حينا جهة الواقع، وحينا جهة المخيل. ما يحدث بينهما من لذة تعبير عن حدث واقعي محرم، ولكنه أيضا نتيجة تصور موجود عن صلة بين السماء والأرض حيث تكون السماء مذكرا يهتك ويثور وتكون الأرض أنثى تحبل ويسكن إليها. هنا أيضا تتنامى الحكاية بين طرفيها الواقعي والخيالي. حدث المحاكمة حدث واقعي يحدث في أي وضع مشابه في بلد لا يزال يحتكم لتقاليد عدالة بدوية راسخة، أما الحكم فإنه غريب عجيب، بل سحري أسطوري وهو المسخ. وهنا يقفز الكاتب متجها نحو الشرق القديم حيث وجدت فكرة المسخ، فيتبناها، ويغرسها في تربة الواقع، تصبح موشكا شجرة لبان ممسوخة مزروعة في أشد المناطق حرارة، وهنا يعيدنا الكاتب إلى الواقع. الحق أن رواية محمد الشحري رواية نوسان بين عالمين، عالم واقعي بين ظاهر وعالم خرافي بين ظاهر، وهما في الأصل وجهان لبيئة واحدة عمل الزمان على إغنائها بكل هذا السحر غير المكشوف إلا لمن راضه وصبر عليه وتعمقه. في رواية الكاتب كازو إيشيغورو وعنوانها (العملاق المدفون)، يمعن الراوي في تصوير المكان المحيل على الخرافات، حيث يعيش الأهالي ملتفين متكاتفين، في مكان منفتح يمتد على مساحات شاسعة من البراري التي لم تتدخل فيها يد الإنسان. نرى الكهوف المحفورة والتلال العارية والمكسوة، ونلمح الحياة البرية كما لم نرها من قبل. ونرى المشاهد المضببة في غرابتها المحببة إلى النفس، ويمكننا أن نطلق على هذا العمل تسمية الخرافة المحكية. في الخرافة يصبح العالم أكثر هشاشة ودفئا، يمكن التحول من بشر إلى طائر جبلي أو إلى عشبة أو شجرة، وفي الخرافة يكون الفاصل بين ما هو واقعي وما هو خيالي غير واضح، إذ تنمو للشخصيات أجنحة وتطير فعلا لتصل وتحقق فعلها الواقعي في المكان والزمان. ورواية محمد الشحري هي في رأيي من هذا النمط الصعب النادر الذي لا يتقنه إلا القليل. لأنه أدب يكتب على حافة الواقع متأثرا بما يفرزه الواقع من تصورات هي من صميم طبيعته وإن فارقته في النوع. حكاية موشكا هي قصة خرافية معقدة تسكن في عمق الواقع وتلخص ما فيه من عمق وما فيه من نضارة، يصعب التقاط جواهرها من دون استعمالها بحرية وتركها تنكتب على طريقتها. وما قلته ليس غريبا لأن الواقع في هذه البيئات ليس فقط ما يدور في المكان المعلوم بين أشخاص معلومين في قضايا معلومة، إن هذا الواقع يخفي واقعا أعمق في الحقيقة، وهذا الواقع المخفي اللامرئي شديد التأثير في المرئي بل لعل المرئي ليس غير تجل بشري لما هو خفي في الذات البشرية وفي طبقات المكان. والراوي يتعامل مع واقعه في بعده المرئي وفي بعده الأعمق، مستثمرا في ذلك جميع ثقافته، حريصا على تضمين أكثر قدر من الحكايات الخرافية وأخبار الجن، لقد استطاع ترويض أبطاله ليقصوا القصص، وهي حيلة سردية بسيطة جعلت بعض القصص نافرا من البناء، لكنها حيلة مكنته من حقن الظاهر الواقعي بالخفي العجائبي. الواقعي والخرافي ليسا عالمين متمايزين في الرواية بل هما وجهان للواقع نفسه ضمن وجوه كثيرة يحتملها الواقع. إذ أن الواقع في الأصل محمل بخرافاتنا وأساطيرنا، والممكن يجاور غير الممكن، والسماوي منغرس في تربة الأرضي، الكاتب هو من يقرر، وقراره هنا أن يعرض هذا العالم بريشة رسام وقلب شاعر، وأن يقترب من الخرافة ويفهم منطقها من خلال حياة الناس الواقعية. لدينا تراث من الحكي والخرافات والأساطير ولكننا كثيرا من نتركه لنكتب واقعا مسطحا ظاهرا، غافلين عن ما يسيل من مياه الحياة في عمقه، وما يحسب للشحري في روايته أنه لم يتهيب هذا التراث الساحر وانغمس عميقا في لياليه الباردة ونهاراته الحارة. وموشكا بعد هذا كله هي نص يتماس مع ضروب من القول كثيرة، إذ نجد فيه إضافة إلى السرد بتنويعاته، الوصف الذي يتقنه الراوي ويتريث فيه، والمحاورات قصيرها وطويلها، والشعر الذي يتلبس بالفقرات ويستأثر بمواضع كثيرة.. وهو ما يطرح قضية أجناسية هي في رأيي في صالح الرواية إذ يميل الراوي إلى نوع من التعدد، فهناك في الكتاب مستويات خطاب متعددة ومتمايزة فحين يكون السرد واقعيا يميل الكاتب إلى السرد الخطي غالبا بلغة تميل إلى التبسيط والوضوح، وحين يعنى بالخفي فإن سرده يختلف ولغته تشف وتكشف عن مخزون مثير من الشاعرية. إن موشكا وهي تنتمي في الكتاب إلى أهل الباطن في تحولاتها تذكر أيضا بعشتار في تحولاتها وفكرة التحول هي حيلة سحرية سيطرت على الآداب القديمة وهي في الكتاب كانت الجسر الذي مكن الراوي من مواصلة سرده. ومحمد الشحري يسرد تحولات موشكا بلغة قريبة من لغة الخرافة، فزمنها رخو، وأحداثها لا يحكمها منطق ظاهر. وهنا تحديدا يبدو من المهم أن نلاحظ أن ما أسميته التماس بين ضروب الخطاب كان مفيدا للرواية من جهة صدقيتها، فعمال اللبان وموشكا لا يتكلمون مثل الراوي، ولغتهم وإن مرت عبر راو عليم، فإنها حافظت على طابعها. في الكتاب حكاية طريفة ملذة مخيلة، يتحول البشر فيها إلى شجر، وتستخلص فيها الحياة بسكين.