طالب عدد من المثقفين بتجديد الخطاب الثقافي من داخله بتضمينه المزيد من القيم الإنسانية كون بعض التيارات والاتجاهات تستغل الخطاب السائد لضخ المزيد من التطرف ما ينتج عدم احترام الرأي الآخر وتبرير التجاوز والتطاول على المختلف والمخالف، مؤكدين أن أنسنة الخطاب الثقافي استراتيجية نقدية، تكرس كل القيم التي تعيد الاعتبار للإنسان من العقلانية والحرية والمساواة بعد أن سلبتها منه حركات وجماعات ترى أنها تنطق وتقرر باسم الله دائما، ويرى الروائي عمرو العامري أن حضارات البحر المتوسط تشترك في إرث ثقافي تشكل النزعة العقلانية الإنسية التي يسميها نزعة الأنسنة أحد أهم عناصره ويؤكد أن الحضارة الإسلامية قد أسهمت في تطوير هذه النزعة من منتصف القرن الثاني حتى منتصف القرن الخامس الهجري، مشيرا إلى أن أكثر الأجيال الفكرية تمثيلا لهذه النزعة الإنسية جيل مسكويه والتوحيدي الذي تألق خلال القرن الرابع الهجري في الجمع بين شتى أجناس الأدب والفنون والتاريخ والجغرافيا البشرية والفلسفة إضافة إلى الثقافة الدينية المنفتحة، وأضاف: ازدهرت الأنسنة في أوروبا في القرن السادس عشر بسبب اكتشاف فكر وثقافة عاشت وازدهرت في جو أديان تتعايش وتؤمن بالتعددية والاختلاف وحق الآخر في العيش مع احتفاظه بما يؤمن به وما يعتقده كون الإيمان فرديا والدولة حياة مجتمع، ويعد الكاتب سعود البلوي تغلغل الأيديولوجيا في الدين أمرا سهلا إلا أن نزعها منه أمر في غاية الصعوبة، لافتا إلى أن هذا واقع الحال الذي تعيشه ثقافتنا العربية الإسلامية منذ ستينات القرن الماضي، موضحا أن تفكيك هذه الأيديولوجيا يقوم على نقد الخطاب الثقافي وإعادة النظر في عمليات الضخ الأيديولوجي التي أرجعتنا إلى مراحل متقدمة من التوحش الإنساني، بدلا من أن تتقدم بنا فالعلاقة بين الإنسان والإيمان هي علاقة روحانية سامية، وهذا ما تمثله الحقيقة الدينية عبر التاريخ، فكل الأديان والمذاهب والعقائد تتفق على السمو الروحي من خلال الإيمان، لكنها تختلف في الصيغ والطرائق التي يعبر بها عن هذا الإيمان، ويرى البلوي أن ثقافتنا الإسلامية تعاني خطر تنامي الأفكار الدينية المتطرفة التي تطورت اليوم لتكون معتمدة على القتل والتدمير كطريقة لبتر الاختلاف من جذوره عبر إعادة صياغة التعاليم الدينية من خلال الاعتماد على التراث بما يناسب أهداف وغايات التطرف بدءا من فرز أفراد المجتمع، ودعا البلوي إلى خطوات جديدة لمكافحة الفكر المتشدد، منها الانفتاح على الآخر وتبني المثقفين خطابا عقلانيا مقابل الخطابات الدينية المشوهة في ظل تهميش المؤسسة الثقافية للأنسنة والفكر برغم أن الأيديولوجيا لا يمكن تفكيكها إلا بوجود ضخ هائل للفكر الديني المتسامح وتحسين الوضع الاقتصادي، والقضاء على البطالة، وتحقيق السلم الاجتماعي من خلال الإصلاح، فيما يذهب الكاتب مجاهد عبدالمتعالي إلى أنه عندما عانى الصحابة رضي الله عنهم في عهد الإمام علي رضي الله عنه من الخوارج كان السبب أن هؤلاء الخوارج يسترسلون في الآيات والتعاطي معها (أخذا بعموم اللفظ)، بينما الصحابة الكرام لم يتعاطوا مع الآيات بنفس الدلالة العمومية للفظ، لأن كل آية يقرؤونها يرون في ظلالها أسباب النزول، وضرورات المرحلة، وضوابط المصلحة، وأضاف: لدينا نماذج أنسنة منها فعل عمر رضي الله عنه بإسقاط حد قطع يد السارق عام المجاعة مراعاة للظروف الاقتصادية وعملا بروح النص ومفهومه لا بمنطوقها فقط، مشيرا إلى أن تمسك البعض بمقولة (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) يهدف إلى تكفير الدول والحكومات والجماعات والأفراد، واستباحة الدماء بشكل يعيد لنا قيح التاريخ وصديده، معددا مظاهر التعايش والأنسنة في زمن النبوة، إذ أن الدراهم والدنانير في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانت دراهم ودنانير بيزنطية وفارسية، فكيف فات النبي وأصحابه أسلمة العملة وسك الدنانير، ودعا عبدالمتعالي إلى خطاب ثقافي اجتماعي مدني متنوع يتحرك بحرية وفق مصالح المجتمع ليكون تربويا وطنيا اقتصاديا أخلاقيا وقانونيا عبر مؤسساتها المتعددة ووزاراتها، مؤملا أن تنجح جميع المؤسسات في تبني خطاب مؤنسن يعيد التوازن لمجتمعنا السوي بطبعه.