تتسلل إلينا مصطلحات فكرية وفلسفية عدة ليست من إنتاج ثقافتنا الإسلامية أو العربية، وهي ليست بالقليلة وليست وليدة عصرنا الحاضر، فمنذ أن دخل مصطلح الفلسفة والمنطق ونحن في جدل تجاهه وتوجس من كل جديد، وإلى يومنا هذا ونحن نعيش قلق هذه الحال، زاد من توترنا ذلك النتاج الهائل الذي يصدره الغرب من تلك المصطلحات والمفاهيم نتيجة حراكه الفكري المتسارع وهيمنته السياسية والثقافية على العالم، ومن أبرز مصطلحات الحيرة لدينا، المفاهيم والأشكال المختلفة للديموقراطية والليبرالية والرأسمالية والحداثة وكل ما يتصل بها من أدبيات وقيم. والفكر الغربي اليوم لا يزال ينتج الكثير من النظريات والمواقف، بيد أنه أصبح أكثر خشونة في تسويق أطروحاته التي تتصف بالميوعة والهلامية في قبض معانيها! بل زاد تسارعه نحو المابعديات (كما بعد الحداثة، وما بعد التاريخ، وما بعد الأيديولوجيا) أو نحو النهايات القاتمة (كما في موت الإنسان، وموت المؤلف) وغيرها، من دون انتظار لنضجها وتفاعل الفلاسفة معها، بينما ثقافتنا الإسلامية والعربية لا تزال تغص في القديم فضلاً عن أنها تستوعب وتبتلع ذلك الجديد، فهي إلى الآن لم تحسم أمرها بعد في مفاهيم أكثر وضوحاً في تراثها وتاريخها ربما مرّ عليها عشرة قرون وهي تراوح في الموقف ذاته من دون أن تتجاوزه. هذه المقدمة من أجل أن أورد مصطلح (الأنسنة) ليس كما نفهمه من لفظه المنطوق، بل من خلال ما يجرّه هذا المصطلح من مفاهيم وفلسفات برزت مع استعماله عند نشأته في الغرب في بدايات القرن الرابع عشر الميلادي (وفق قول د. فيصل عباس في الفلسفة والإنسان ص 142 دار الفكر العربي)، أو يمكن أن نرجع بداية حركة الأنسنة إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر (وفق قول فيليب هودار في كتاب فلسفة الحداثة. نصوص مختارة. الذي جمعه محمد بن سبيلا وعبدالسلام بنعبد العالي ص 106 - 107، طبعة الشبكة العربية للأبحاث والنشر). فهو يرى أن مولد النزعة الإنسانية في الفكر الغربي ظهر أول مرة في عام 1808م من خلال المربي البافاري نيثمر، وقصد بها نسقاً تربوياً يستهدف تكوين الشخصية الإنسانية وإعطاءها كرامتها وقيمتها، ثم قدّم ماركس فكرته الأوضح حول الإنسان الكلي عام 1844م، وتبعه عدد من الفلاسفة الألمان، ويمكن أن نعتبر الأنسنة في بدايتها ثورة مضادة للكنيسة، وليست تياراً فكرياً منظماً ومتكاملاً بالمعنى المعروف، فقد كانت رغبة جامحة في الانقلاب على الموروث الذي كانت الكنيسة قد قررته كمقدس لا يقبل النقاش بجعل الإنسان كائناً مدنساً بالخطيئة الأصلية، فحركة الأنسنة جاءت لتحرير الإنسان من أي سلطة خارجة عن ذاته، ولتحريره أيضاً من التبعية اللاهوتية، فهو الذي يجب أن يضع المعايير والمقاييس التي ينبغي أن يسير عليها في حياته، ويرسم طريقه القيمي والفكري بعيداً من أي سلطة لا تمثّل إرادته البشرية. من أبرز نشاطات الأنسنة السابقة للقرن التاسع عشر ما قام به غراتيوس الهولندي عام 1625م كبداية عملية في اعتبار الطبيعة الإنسانية مصدراً للقوانين بدلاً من المصدر الإلهي، ثم جاء الدور الأبرز لسبينوزا في فصله بين الفلسفة واللاهوت حوالى عام 1663م، فأضحت هذه المحاولات وغيرها من أهم نظريات الأنسنة التي التقى عليها عدد من الفلسفات القانونية والسياسية والاجتماعية في ما بعد. (انظر: في نقد الحاجة إلى الإصلاح لمحمد الجابري ص 147 - 151. طبعة مركز دراسات الوحدة العربية). مصطلح الأنسنة ولد ونشأ في الفكر الغربي نتيجة عوامل كثيرة ذكرتُ بعضها، ولكنه لم ينضج حتى الآن، سواء كان على المستوى العملي أو الفلسفي، بدليل فكرة ميشيل فوكو الأخيرة حول (موت الإنسان) والتي طرحها في أوائل السبعينات، حيث ألغى الكائن الإنساني وجعله خاضعاً لمنظومة لغوية أو أسطورية، وتفكيك البنية التي تتأسس عليها مطلقات وحقائق الإنسان، وربما ساهم تغول التقنية وارتداداتها على الحياة في فكرة (موت الإنسان) لدى فوكو. (انظر: د. عبدالرزاق الدُواي. موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المعاصر. بيروت: دار الطليعة، 1992م). أما مفهوم الأنسنة في التراث الإسلامي فلم يستعمل كما حصل لاحقاً في أوروبا، والإسلام كان ينظر للإنسان كقيمة عليا وتكريمه كمقصد أسنى جاء مع الوحي الإلهي وليس متعارضاً معه، فالأنسنة في مقصودي من هذا العرض هو «اعتبار إنسانية الفرد وطبيعته واحتياجاته أصل البيان والتأويل والتفكير العلمي والتنزيل العملي لقضايا السياسة والاقتصاد والاجتماع». فمقاصد الدين جاءت لإسعاد الإنسان وتكريمه وليس لتهميشه والتقليل من قدره، يقول الإمام الشاطبي: «إن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل» (الموافقات، تحقيق عبدالله دراز 2/ 6، طبعة دار المعرفة). وأثبت أن دليلنا في ذلك هو الاستقراء التام لنصوص الوحي المعلّلة بالمصلحة التي يدركها الإنسان وتعود عليه بالنفع ويكون بالتالي محورها الثابت ومرجعها في الأحكام. وهذا يعني أن الأنسنة ليست صداماً أو بديلاً عن الوحي، ومحاولة اعتبار الأنسانوية مرجعاً فكرياً وقيمياً بديلاً عن الوحي المنزّل، قد تكون التفافاً على الفطرة المستقيمة نحو أهواء الإنسان الغلابة، فمع اهتمام الوحي بمرجعية مصالح الإنسان غير أنه حذّر من خضوع الشرع لأهواء الإنسان وملذاته لأن مآلها سيفضي إلى إفساد الإنسان والحياة ، كما في قوله تعالى: «يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ» (سورة ص 26). ويقرر الإمام الشاطبي قاعدة كلية في هذا المقام بقوله: «المقصد شرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدالله اختياراً كما هو عبدالله اضطراراً» (المرجع السابق 2/ 168). أما مظاهر الخطاب الأنسني في الإسلام فكثيرة، ولكن يمكن أن نجمل بعضها في أهم سياقين يظهر فيهما الفكر والفعل الأنسني في الإسلام، أحدهما: سياق الفطرة الإنسانية، وهي الجبلة التي خُلِق عليها الإنسان وفق طبائعه وصفاته الأصيلة، والشريعة الإسلامية انطلقت أحكامها على قاعدة الفطرة من دون تهميش لها أو تقليل من تأثيرها في الاجتهاد، يقول الإمام ابن عاشور: «إن حكمة السماحة في الشريعة أن الله جعل في هذه الشريعة دين الفطرة، وأُمور الفطرة راجعة إلى الجبلة، فهي كائنة في النفوس، سهل عليها قبولها، ومن الفطرة: النفور من الشدة والإعنات، قال تعالى: «يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً» (النساء 28)، وقد أراد الله تعالى أن تكون شريعة الإسلام شريعة عامة ودائمة، فاقتضى ذلك أن يكون تنفيذها بين الأمة سهلاً، ولا يكون ذلك إلا إذا انتفى الإعنات ويرى كذلك أن «جميع أصول الإسلام وقواعده تنفجر من ينبوع معنى الفطرة». (مقاصد الشريعة 61، طبعة الشركة التونسية للتوزيع). الأمر الثاني: نصوص وقواعد التكريم الإلهي للإنسان: وأساسها ما جاء في قوله تعالى: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً» (الإسراء 70) فهذا النص القرآني جاء لإنقاذ البشر من الإهانة والظلم والدونية من دون تفريق بين أحد منهم، كذلك جعل الله تعالى الإنسان خليفته في الأرض «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً» (البقرة 30). كذلك سخّر الله تعالى الكون كله لخدمة الإنسان، قال تعالى: «أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً» (لقمان 20)، وألغى الإسلام أي وساطة كهنوتية بين الله والإنسان، وهناك نصوص كثيرة في ذلك منها قوله تعالى: «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ» (البقرة 186). هذه بعض آيات التكريم الرباني للإنسان، وكلها تدل في شكل واضح على أن تلك النصوص التي نزلت من القرن السابع الميلادي كانت سابقة للحال الأوروبية بقرون عدة. ولكن الواقع الإسلامي اليوم ليس على حال التنزيل الأول للوحي أو قريباً للحال الأوروبية الراهنة، بل ظهرت عليه أمارات عودة التأويل المنحرف للإنسان وغلبة التهميش الاجتهادي لحاجاته الطبيعية، ولعلي بشيء من الإيجاز، أرصد أهم مظاهر هذا التهميش للأنسنة في خطابنا الدعوي والمعرفي: أولها: غلبة الخطاب الأخروي على حساب الخطاب الدنيوي في مسائل الحياة المعاصرة التي تقتضي نظراً إلى المعاش واقتراباً من الواقع، ويبقى خطاب الوعد والوعيد أداةً لتهذيب النفس وتحذيراً للهوى من الانحراف، ولكن أن يتم معالجة الفقر والتخلف والأمية والاستبداد والفساد بوعود الآخرة فقط ربما يصبح نوعاً من تخدير الإنسان وتهميش دروه الحياتي في الأرض. وثانيها: إغفال الخطاب الحقوقي المدافع عن حرية الإنسان وكرامته وأرضه وبيئته من ضمن العمل الفقهي أو الوعظ والإرشاد أو التعليم الديني مع أهميته الشرعية والواقعية. ثالثها: إحكام الديني والطائفي والقبلي على كل صور العلاقة بين الإنسان والإنسان أو بينه وبين احتياجاته الحياتية أو مطالبه الحقوقية أو حظوظه الدنيوية، فالإنسان اليوم قد لا ينال ذلك كله إلا وفق انتمائه الديني أو الطائفي وفق تقسيمات السياسة الراهنة بحالاتها المتوحشة والمادية كافة، ويبقى طوق النجاة لمجتمع أكثر أمناً واستقراراً ورغداً في العيش، مرهوناً بعودة كرامة الإنسان والاعتبار الأنسني لاحتياجاته.