هل بقي لي ما أكتبه عن فقيد الوطن، وقد حزن لفقده المواطنون وانبرت أقلامهم تؤبن الراحل الكبير، بمزيج من الشعور بالأسى، واعتزازا بتاريخ سيد من سادة الدبلوماسية العالمية الكبار. وتبارى قادة العالم، يتحدثون عن مآثره، حديث الصدق في ما عرفوه عنه وفيه، على مدى أربعين عاما، كان الأمير سعود الفيصل، خلالها، النجم الذي لم يتضاءل، يوما، بريقه، والقدوة التي عجز عن الاقتداء بها الكثيرون. لقد فجعت بوفاته، كما فجع بها الكثيرون ممن عرفوه فأحبوه محبة الإعجاب والتقدير والاعتزاز به علما شامخا من أعلام الوطن، والعالمين العربي والإسلامي. وحملتني ذكريات الأربعين عاما معه، لحالة من الحزن الشديد وصلت بي لحافة البكاء. أقول، ربما لم يبق لي ما أكتب عنه، ووسائل الإعلام تواصل الحديث ثناء عليه. لقد انتقل الأمير سعود الفيصل لجوار ربه والعالم العربي في أسوأ حالاته. فقد احترام العالم له، ولم يعد يبالي بالدمار الذي يلحق به فيقوض أركانه. وتحول الإنسان العربي، لكثرة قتلاه كل يوم، لإنسان فاقد للعطف والاعتبار. ولم يعد للعرب من قضايا الاعتزاز القومي ما يباهون به، والمجازر والدمار أقدار شعوبهم. ولم يعد العالم، والشعوب العربية في أقصى حالات التدني والانحدار، لم يعد العالم يبالي بمن يموت من العرب وزراء أو رؤساء، إلا أن العالم قد تلقى نبأ وفاة الأمير سعود الفيصل وكأنه وزير خارجية للعالم بأسره! ومن هنا جاء الحديث عنه والإشادة بأدائه الدبلوماسي الراقي على لسان الكبار وفي الصحف العالمية. عرفت الفقيد منذ أربعين عاما، غداة تعيينه وزيرا للخارجية في شهر نوفمبر 1975. اجتمعت به وأنا سفير لبلادي خلال زيارته الرسمية لألمانيا. كنت أحسب أن شباب الوزير، وأهمية المنصب الذي أسند إليه، وانتماؤه العائلي الرفيع قد يجعل منه المبادر دائما للحديث، لاكتشف أنه ذو هدوء يتجاوز عمره. وأنه مستمع، يجيد الاستماع، يتحدث لمحاوره بما يشبه الهمس، موجزا في حديثه، واضحا في ما يتناوله من الأمور، ودائما ذو وجه منفرج الأسارير. لقد جمعتنا أقدارنا، كي نظل على صلة لا تنقطع، هو وزير للخارجية وأنا سفير لبلادي في ألمانيا ثم فرنسا، فأمين عام لمجلس التعاون. كان كل ما فيه قد جعل منه وزيرا للخارجية، ينفرد بخصال يفتقدها الآخرون. حتى المهابة في مظهره كانت سمة لا تعرف إلا عنده وفيه. أذكر في لقاءاته مع القادة الألمان والفرنسيين على مدى اثنين وعشرين عاما أنهم كانوا يرون في هذا الأمير العربي، في هدوئه، وشمول إلمامه بما يتحدث فيه، وحرصه على تعزيز علاقات بلاده معهم استثناء عما ألفوه في وزراء آخرين. بل كانوا يبتهجون للقائه. لم تكن في العلاقات الثنائية مع ألمانياوفرنسا، قضايا خلافية، وكان في كل اجتماع مع أولئك الرؤساء، ووزراء خارجيتهم تظل القضية الفلسطينية محور حديثه معهم، فهي في ضميره الحق الذي لا يموت، وهي في أدائه إرث سياسي انتهى إليه من ملوك آل سعود بدءا من المؤسس الملك عبدالعزيز حتى يومنا هذا. كان ذا ثقافة إسلامية عربية، وثقافة غربية قد لا يكتشفها المحيطون به إلا عندما يبلغ الحوار ذروته من الأخذ والعطاء. لقد ظل الفقيد، على مدى أربعة عقود، وزير خارجية لدولة عربية إسلامية كبيرة، عايشت أحداثا سياسية جساما، كتبت تبعاتها عليها، كالحرب العراقيةالإيرانية وغزو العراق للكويت، ومآسٍ عربية أخرى. كان يتحدث في المحافل الدولية، يشارك في الندوات، يلقي المحاضرات، ويستجيب للصحفيين استجابة طوعية رضية. ولم يذكر عنه خلال أدائه السياسي الراقي كلمة نابية واحدة، أو رأي انفعالي فيه شطط واندفاع، خلافا لما عرف أحيانا عن بعض نظرائه من رعونة في القول أو حماقة في التصرف. كان يزن كل كلمة قبل أن تصدر عنه، فهو يعلم عظم المسؤولية فيما يعمل وفيما يقول. وكان شجاعا عندما تكون الشجاعة مطلبا لا ينفع الغموض فيه. ولا ينسى العالم تحميله الولاياتالمتحدةالأمريكية وزر ما يجري في العراق عندما قال، على مسمع من الدنيا، إن أمريكا قد سلمت العراق إلى إيران على طبق من ذهب! كان يطلب إلي أن أوافيه بدقائق سياسة فرنسا الداخلية، هي ليست بالضرورة مطلبا للقيادة السياسية في بلاده، بل هي رغبة منه لأنه يرى في الاطلاع على الحراك السياسي الداخلي في فرنسا متعة للفكر وإثراء لمخزونه من الإحاطة السياسية بوجه عام. كنت ضيفه على العشاء في منزله في باريس عشية سفره الأخير إلى لوس انجلوس. كان يبدو مرحا سعيدا. وفرحت لما رأيته عليه، وظل طوال العشاء يشارك، بهدوئه المعهود، في ما دار من حديث. رجوته أن لا يتعجل بالعودة للوطن وأن يمنح نفسه قدرها من الراحة، وقلت له مودعا نراك إن شاء الله على خير في الرياض. كيف كان لي أن أعلم أني لن أراه بعد ذلك المساء، وعلم ذلك عند الله وحده! رحم الله الأمير سعود الفيصل رحمة واسعة وجعل الجنة مثواه.. إنا لله وإنا إليه راجعون.