1 الحكايات التي يرويها الكاتب العالمي الراحل الأوروغوايي إدواردو غاليانو يمكن أن تطرق أبوابنا بمعناها الواضح مدججة بالإحالات التاريخية، واضحة، كبياض الثلج حينا، وجارحة كحد السكين أحيانا، لكن في كثير من الأحيان لا نحصل إلا على رياح جارفة، متمردة، منددة، تأخذ بتلابيبنا إلى أرشيف معلن أو غير معلن. حكايات مكثفة ومتخفية يجب علينا أن نتعقب دلالاتها السفلية داخل عوالم المكتبات؛ لأن غاليانو لا يكتب إلا هوامش على هوامش، لقراءاته الغزيرة. هوامش يرمم بواسطتها الثغرات ويمحو الزيادات ويبني نسقا حكائيا جديدا شبيها بنسق الشذرة المتأملة أو القصة القصيرة جدا، كما عند مونتروسو مثلا، لكنه على العموم يبقي عوالمه الساحرة عائمة كجبل الجليد يبحث عن قارئ متميز يسبر النص وإحالاته المرجعية ويستكشف صوت غاليانو المندد بالنظم الإمبريالية والرأسمالية المتوحشة. 2 يكتب غاليانو بعاطفة متضامنة مع منبوذي ومهمشي ومحرومي العالم، وفي مقدمتهم سكان أمريكا اللاتينية، وعلى رأسهم الشعب الأورجوياني. يكتب بإجلال تاريخ الإنسانية المنسية من التأريخ، والمقصية من التمجيد المستحق. ومن هنا تأتي القيم المتبناة من التاريخ، حيث يفتح في دهاليزه أبوابا مستكشفة منها يدخل إلى عالم حكاياته المبتورة أو المسكوت عنها. لا تهمه التفاصيل الطويلة والمسافات المجهدة التي يخوضها التاريخ عادة بأحداثه وتشعباته. بمنطوقه وصمته، بمكتوبه ومرويه. من هذه الفضاءات المضيئة والمعتمة يكتب غاليانو كتبه بيقظة عالية. وكما يقول «يجب أن نبقي العين مفتوحة والآذان مصغية، لنسمع ونرى ما عادة لا يسمع ولا يرى». يستخدم غاليانو خلفيات سياسية وتاريخية واجتماعية لوصف القهر والظلم، ولكن أيضا لتمجيد الجمال، وغالبا ما تقدم أعماله في شكل نصوص قصيرة مبنية على وقائع حقيقية مغلفة بخيال واسع، يعري من خلاله الواقع ويكشف الحقائق، غير متنازل قيد أنملة عن قناعاته الفكرية والسياسية التي اكتسبها منذ سنواته المبكرة حينما كان يعمل في الصحيفة الاشتراكية، وهو بعد في الرابعة عشرة. 3 إذا كان غاليانو قد تعلم من خوان رولفو النمط الحكائي الموغل في النسق الحكائي لأمريكا اللاتينية بسحره وألغازه وحكمة أسلافه المترسبة في عمق التاريخ، فإن معلمه الوجودي الحقيقي هو الروائي الأوروجوياني خوان كارلوس أونيتي (1909 1994)، معه تقاسم التسكع والصمت. ورغم أن أونيتي المهمل والمتهاون والمفرط في الكسل، كان يقضي معظم وقته بين النوم والتسكع، وهو نقيض سلوك غاليانو الحيوي والمحب للحراك والرحلات، إلا أن تأثير أونيتي كان حاسما وباعتراف غاليانو نفسه. كان أونيتي أعظم صامت عن الكلام ومختلق للحكايات. لم يسبق لأونيتي أن سافر، ولكنه يعطي لكلامه إجلالا كبيرا حينما ينسبه إلى الحضارات العظيمة، مثل الحضارة الصينية: «ذات يوم قال لي مثلا صينيا مهما جدا. ووجدت في وقت لاحق أنه لم يكن صينيا، وربما كان محض اختلاق، ومع ذلك، بقي المثل خالدا في ذاكرتي. قال لي أونيتي: «إن الكلمات الوحيدة التي تستحق الوجود هي الكلمات التي تتفوق على الصمت». لقد وجهت هذه الكلمات خطواتي في مجال الأدب. 4 يسود أعمال غاليانو نقد لاذع ونزوع إلى السخرية الهجائية. لكن في إطار حكائي لا يخضغ إلى أي نوع من التصنيف. يوافق غاليانو على عدم تصنيف أعماله، ويدافع عن ذلك بشراسة أمام جشع الناشرين الراغبين في تجنيس أعماله، للزيادة في مبيعاتها. لكنه عندما وجد كتابه «رأسا على عقب» مزودا برسومات النحات المكسيكي خوسي غوادالوبي بوسادا معروضا في المكتبات الإسبانية ضمن صنف الكتب الهزلية. اغتبط بالانزياح الذي سيحققه هذا التناقض بين الرسومات الهزلية والحكايات الجادة. يرى غاليانو أن السعادة توجد في الأشياء الصغيرة. وحول مصير الإنسانية لا أقل ولا أكثر أما الذين يعدون التقارير التنبئية عن حالة مزاج العالم في الصحف والمجلات فهم كاذبون. أولا لأن الأمل هو الشيء الوحيد الذي لا يمكن قياسه، وأيضا بسبب التغييرات الحقيقية التي لا تحدث في عشر دقائق أو عشرة أيام، ويقول غاليانو تعودنا كثيرا أن نخلط بين الواقع والفرجوي، وبين العظمة وبين ما هو مذهل ببساطة كبيرة. العظمة تتستر في الأشياء الصغيرة ولا علاقة لها بالفراغ الذي أصبح أمرا عظيما. العظمة، إذن، في الأشياء الصغيرة. مثل هذه الحكاية التي حصلت عليها بعد عناء طويل. حدث الأمر خلال الدورة الأخيرة من معرض الكتاب في مدريد: «كان هناك طابور من عدد لا أعرفه ممتد على عدد من الكيلومترات. فقلت لنفسي: هذا لن يبقيني على قيد الحياة. أمضيت أربع ساعات قاسية، ولكن أي شيء مؤلم لا بد له من تعويض. وحصلت فعلا على مكافأتي، فبين توقيع الكتب للعم مانولو والعمة بيبا، كان هناك شاب، خجول قليلا، ولكن سيماؤه حسن، تقدم نحوي. سألته: لمن تهدي الكتاب، إلى أبيك، أم إلى أمك؟ فأجاب: إلى نهر بارانا. وقعت الكتاب وغادر دون أن يقول أي شيء آخر. مكثت في مكاني ساكنا ولكن في منتهى السعادة. كانت هذه أول مرة في حياتي أهدي فيها كتابا إلى نهر. لم يتبق إذن إلا أن أصنع منها حكاية أجمل من الصمت. 5 تعتبر ثلاثية ذاكرة النار من أبرز أعماله وهي ثلاثية في مجلد واحد ومعها عشرون سنة من البحث والتنقيب، والكتابة. يقول عنها غاليانو «كان هناك الكثير من العمل، ولكنه يستحق هذا العناء كله. الكتب التي كتبت في وقت لاحق هي أكثر تفصيلا، وأكثر تهذيبا، لكن ذاكرة النار كانت أول محاولة مني لإنقاذ الأصوات غير المسموعة، تلك الأصوات المهزومة، الخاسرة من السود والهنود والنساء والمتمردين...»، يروي إدواردو غاليانو شذرات من تاريخ الإنسانية بشعرية تحرق المراكب خلفها، لابتداع عوالم جديدة. سنفتقدها كثيرا بعد رحيله في 13 أبريل. كرونولجيا: 1940 ولد في مونتفيديو بالأوروغواي. 1960 أصبح رئيس تحرير المارشا الأسبوعية، ثم مديرا في صحيفة إبوكا سنة 1964 1971 نشر الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية، وهو عمل كبير من ثلاثين كتابا ترجم إلى ثماني عشرة لغة. 1973 تعرض للسجن والمنفى في الأرجنتين بسبب الديكتاتورية، ثم في إسبانيا في عام 1976. 1985 عاد إلى مونتيفيديو في ظل حكومة منتخبة ديمقراطيا بالأوروغواي. يحتل غاليانو في أدب أمريكا اللاتينية مركزا رئيسيا ومؤثرا، فقد واظب لأكثر من خمسين عاما على كتابة مدونة أدبية غير قابلة للتجنيس، تمزج بين التاريخي والإنساني، تحاكي الواقع لكنها تلامس الخيال.