لا أحد يجادل في حقيقة أن لعبة «كرة القدم» هي من أكثر الرياضات شعبية في العالم. لكن شغف العالم بهذه الرياضة يتفاوت من منطقة جغرافية إلى أخرى، ولعل بلدان أميركا اللاتينية هي الأكثر تعلقاً بها. هذا ليس اكتشافاً، وإنما باتت بدهية لم تعد تشغل بال أحد من عشاق كرة القدم الذي يعرفون أن سيدة هذه اللعبة هي البرازيل، وجاراتها، من دون منازع... وربما اعتبر كتاب الروائي إدواردو غاليانو «كرة القدم في الشمس والظل» إضافة نادرة تسعى إلى توثيق محطات في تاريخ هذه اللعبة بعين روائية، لا بعين المؤرخ الرياضي. كان غاليانو، وهو من الأوروغواي، يحلم كأقران له أن يصبح لاعب كرة قدم. يتذكر ذلك الهوى البعيد: «كنت ألعب جيداً. كنت رائعاً. ولكن في الليل فقط، في أثناء نومي، أما في النهار فأنا أسوأ قدم متخشّبة شهدتها ملاعب الأحياء في بلادي». هكذا، يقدم غاليانو اعترافه الصريح، بيد أن هذه الأمنية العزيزة لم تبرح ذاكرته، فأراد أن يحققها من موقع آخر، موقع الروائي الذي صار مهووساً بمتابعة المباريات، والمستعد لأن يخصص وقتاً طويلاً كي ينجز كتاباً يحتفي فيه بتلك اللعبة على طريقته الخاصة. يعلّق على إنجازه هذا الكتاب الصادر في ترجمة عربية لصالح علماني، عن دار طوى (لندن): «كنت أشعر بأنني بكتابتي سأحقق بيدي ما لم أستطع أن أحققه مطلقاً بقدمي: فأنا مجرد أخرق لا خلاص له، ووصمة عار في الملاعب، ولهذا لم أجد وسيلة سوى أن أطلب من الكلمات ما رغبت فيه كثيراً وأنكرته عليَّ الكرة». يستعرض صاحب «أفواه الزمن» في هذا الكتاب، واعتماداً على أكثر من مئة مرجع، تاريخاً طويلاً وحافلاً للعبة كرة القدم، في مقاربة ثقافية وسوسيولوجية جذابة. يوضح كيف نشأت في العهود البعيدة بدافع التغلب على الملل وتزجية الوقت. يقف عند المحطات الرئيسة التي مرت بها هذه اللعبة التي بدأت بكرات من القماش أو القش المربوط بحبال، وصولاً إلى شكلها المطاطي الحالي. وهو في سرده المشوّق لمراحل تطور هذه اللعبة، يسلط الضوء على عناصرها ورموزها الرئيسة. هناك «اللاعب» الذي «يركض لاهثاً على شفير الهاوية. في جانب تنتظره سماوات المجد، وفي الجانب الآخر هوة الدمار». وهناك «حارس المرمى» الذي يصفه غاليانو قائلاً: إنه وحيد. محكوم عليه بمشاهدة المباراة من بعيد. ينتظر وحيداً إعدامه رمياً بالرصاص بين العوارض الثلاث. بهذه الأوصاف والتعابير المشحونة بدلالات ثقافية وأبعاد وجدانية عاطفية، يمضي غاليانو في تعريف العناصر الكروية الأخرى من المشجع والمتعصب وصولاً إلى الحكم والمدرب والمدير الفني والمعالج الفيزيائي وكذلك المعلب والهدف والمدرجات... ليكشف تفاصيل لا يعرفها أحياناً عشاق هذه اللعبة. ومع أن هذه الرياضة شائعة عالمياً، وتبدو بريئة. لكن غاليانو لا يسلّم بهذا الانطباع الخادع. لذلك، يجتهد في كشف علاقة الشركات العملاقة بهذه الرياضة، ودور الساسة والزعماء في استثمارها وتوظيفها سياسياً، ويتحدث عن مباريات خلقت أزمات سياسية وديبلوماسية بين البلدان، ويلاحظ كيف يتحول لاعب الكرة المغمور في الأحياء البائسة الواقعة على هوامش المدن الكبرى، إلى نجم مشهور يجني ملايين الدولارات، ويشير إلى صفقات ومؤامرات كثيرة شهدتها كواليس الملاعب الخضراء، وخصوصاً تلك التي تدور حول حق البث التلفزيوني الحصري. إن تاريخ كرة القدم، كما يقول غاليانو، هو رحلة حزينة من المتعة والواجب والمجد والخيبة والاستغلال والبؤس والحب والصراع بين الحرية والخوف. لكن، كلما تحولت هذه الرياضة إلى صناعة، كان يجري استبعاد الجمال الذي يتولد منه متعة اللعب لمجرد اللعب. ويلاحظ غاليانو أن هذه اللعبة صارت توظف لأغراض من خارجها لتفسد جماليتها وفنونها الساحرة. ولعل تهافت الشركات العملاقة في العالم على وضع صور وعلامات سلعتها على جوانب الملعب، وفي المدرجات، وعلى قمصان اللاعبين يمثل جانباً من ذلك الإقحام الفج «حتى أصبحت علامة الشركة على صدر اللاعب أهم من الرقم على ظهره». وعلى اعتبار أن أهم حدث تشهده لعبة كرة القدم هو بطولة العالم (المونديال)، فإن غاليانو يستعرض تاريخ هذه البطولات بدءاً من البطولة الأولى التي أقيمت في الأوروغواي عام 1930 وانتهت بتتويج البلد المضيف، بلد الكاتب، وصولاً إلى نهايات القرن العشرين. وهو يحاول التمهيد لكل بطولة بإيراد أخبار وحوادث سياسية واقتصادية وفنية وثقافية تزامنت مع تاريخ هذه البطولة أو تلك. ولا يغفل عن تفصيل أهم الأهداف، وعدد البلدان المشاركة، وكيف ارتفع عدد المشاركات لتصل إلى 32 فريقاً في الوقت الحالي. ويذكر نبذات عن أهم اللاعبين الذين برزوا في المراحل المختلفة ولقبوا بأسياد الكرة أمثال: بيليه، زيكو، مارادونا، بلاتيني، شوماخر، باجيو، غوليت، فيلتون، تشارلتون... وسواهم. يتبع صاحب «ذاكرة النار» في هذا الكتاب أسلوبه السردي المعروف، إذ يسجل لوحات قصيرة تروي مئات القصص والحكايات والطرائف والخيبات والهزائم... متنقلاً من عاصمة إلى أخرى، ومن ملعب الى آخر، محاولاً الإصغاء إلى صدى الأصوات الهادرة الصادرة من المشجعين، ومدققاً النظر في أقدام اللاعبين وهم يلاحقون الساحرة المستديرة كمن يغازل معشوقة فاتنة لعوباً. تختلط، في الكتاب، نبرة الحزن مع نبرة البهجة، ويمتزج الحس النقدي الساخر مع المنحى الشاعري الشجي، وتتداخل حالات الفرح العارمة مع لحظات الحزن القاتلة. وتلك هي حال هذه الرياضة الساحرة التي تسلب عقول البشر شرقاً وغرباً، فتراهم ينظرون إلى اللاعب، مرة، نظرة مملوءة بالوقار والكبرياء، وفي مرة ثانية يهبطون به إلى الحضيض، ودائماً فإن الكرة اللاهية، كقدر غامض، هي التي تحدد هذا الموقف أو ذاك. والواقع أن مهارة غاليانو تكمن في معالجة هذا الموضوع السهل من زاوية شديدة الخصوصية، فهو يرد الأرقام والتواريخ والأمكنة والأسماء إلى حالات ومواقف إنسانية مؤثرة عبر سرد أدبي لمّاح يغوص في ما وراء قشور هذه اللعبة ومشاعر عشاقها العابرين، ليلامس الخفي والمجهول. وهو يشكو من «الرياضة الاحترافية التي تفرض كرة قدم تعتمد السرعة المحضة والقوة الكبيرة، وتستبعد الفرح، وتستأصل المخيلة وتمنع الجسارة». لكن، وكما يضيف غاليانو، «من حسن الحظ أنه ما زال يظهر في الملاعب، حتى وإن كان ذلك في أحيان متباعدة، وقح مستهتر يخرج عن النص، ويقترف حماقة القفز عن كل الفريق الخصم وعن الحكم وجمهور المنصة، لمجرد متعة الجسد المنطلق إلى مغامرة الحرية المحرّمة». واللافت أنه في المهن العادية «يأتي الغروب مع الشيخوخة، أما لاعب كرة القدم، فقد يشيخ وهو في الثلاثين من عمره، لأن العضلات تتعب باكراً». وهذه ليست المفارقة الوحيدة التي يسجلها غاليانو، بل ثمة عشرات من المفارقات والتناقضات التي تسم تاريخ هذه اللعبة التي تمثل في رأي غاليانو «احتفالاً للعيون التي تنظر وسعادة للجسد الذي يلعب»، وهي تنطوي، رغم كل شيء، على سعادة غامرة. يثبت غاليانو هذا الاستنتاج عبر الاستشهاد بجواب منجّمة ألمانية حين سألها أحد الصحافيين عن كيفية توضيحها معنى السعادة لطفل، فردّت بهدوء وثقة: «لا أوضح له، بل أعطيه كرة ليلعب».