وصلت القاهرةالمدينة السمراء التي مهما تركتها فإنها تعيش في داخلي.. في المساء ينفتح باب الطائرة.. أمشي المسافة القصيرة بين نقطة الجوازات ومكان التقاط الأمتعة كانت حقيبتي الجلدية تجري على السير الكهربائي وأصوات تتساقط على أذني كالعملات القديمة «كل سنة وانت طيب يا بيه» رائحة القاهرة تستقبلني.. لكل مدينة رائحة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالذاكرة تتغير أشياء كثيرة في المدن لكن رائحتها وطعمها يظل كالروح.. أمواج من الناس تتدافع.. سيارات مركونة على طرفي الشارع.. أصل إلى العربة التي ستقلني للفندق.. يجتاحني خوف صامت نابع من طريقة السائق المميزة في اجتياز بقية السيارات والمارة كأنه كان يسوقنا إلى مقبرة.. يلاحظ الأسطى «حسن» وهذا اسم السائق.. عيني المثبتتين لا إرادياً على آية الكرسي والخرزة الزرقاء المتدلية من المرايا.. نصل إلى اتفاق حضاري أنه لا داعي لممارسة «حرفنته الزائدة» في السواقة حيث إنني لست في عجلة من امري.. يتابع المشوار بسرعة أقل.. يتذكر المسجل.. صوت ام كلثوم ينبعث من الكاسيت.. «عودت عيني على رؤياك».. يطفئ المسجل الأسطى «حسن» يعيد الشريط إلى الوراء ثم يفتحه ثانية على «وان غبت يوم عني أفضل أنا وظني يقربك مني ويبعدك عني» يوقف المسجل من جديد كأنه كان يبحث عن البعد والهجر في أثناء اللقاء يعود صوت أم كلثوم «أبات على نجواك وأصبح على ذكراك وأسرح وفكري معاك» نقف عند الإشارة.. سيارة فخمة من النوع العائلي سوداء تأتي مسرعة ولا تنوي التوقف أمام خط المشاة.. طفل يحمل الفل في يده يطرق طرقات خفيفة على الزجاج.. أشتري منه عقد فل.. شقيقته الصغيرة بجواره تحتضن دمية وتتأمل العربات.. بشر في الناحية الأخرى يصعدون الأتوبيس لا يتعارفون وبشر يهبطون من الأتوبيس لا يتوادعون.. أرنو بطرف بصري حيث اليأس يستريح في عربة من الألمنيوم.. ينام طفلان عليها خارج الفرح.. الأم تنام بجوارهما ككيس رمل.. أصل الفندق نقطة تفتيش وإجراءات يختلط لدي الحزن بالقلق.. هذا التحصين الأمني طبيعي لما أفرزه وباء العصر «الإرهاب» الذي أصبح مثل الإيدز والسرطان لا يوجد له علاج جاهز! أدخل على عجل للفندق عبر الباب الزجاجي الذي يفتح سحرياً بمجرد أن تلتقط عينه جسداً! أصل الغرفة أفتح الشرفة التي تطل على النيل على شكل أنف يندس في حركة الحياة.. الشرفة بها نبتة وكرسيان ومائدة مستديرة.. القاهرة من أعلى أحس أنني معلق في الهواء مربعات الشقق مضاءة، سماء عالية تغطيها الشبورة لا نجمة فيها والنيل ذلك العجوز الوقور تتناثر المقاهي المضاءة على أطرافه! أعود للغرفة أستسلم للراحة الصغرى أتمدد كحلم مستطيل تتسمر عيناي على السقف ككاميرا سينمائية تركها مصور لتحدق وحدها في اللا شيء! أصحو على أذان الفجر يا الله كم هو جميل صوت الأذان المصري أؤدي طقوس التواليت وحلاقة ذقني أذهب للصلاة، الصباح الباكر في القاهرة لا يعادله صباح كانت الشمس تتسلل بين الشقوق والضوء يتكسر على ظهر الطريق ويتمزق إلى آلاف الجزيئات على الأرض والناس بشوشون.. أنتهي من الفريضة أمارس السير الفردي في شوارع القاهرة الإحساس بالسير الفردي في شوارع القاهرة لا يعادله إحساس أمر بالأسوار القديمة المتآكلة والمساكن التي ترتفع عليها الملابس المغسولة كالأعلام.. ثلاثة بسطاء افترشوا الأرض يتناولون فطورهم بقناعة الغلابة.. أتأمل بناية قديمة جميلة تصطف في شرفتها بعض أصص النباتات المتربة.. أتوقف عند كشك للصحف والمجلات انتظر البائع حتى ينتهي من فرش بضاعته التقط الأهرام والجمهورية وبعض المجلات يتحدث البائع مع امراة تبتسم له ابتسامة مقلوبة.. يحاول بتلكك إعادة المتبقي لي من قيمة الصحف والمجلات أعود للفندق مرة أخرى لتناول الإفطار أراقب النيل من وراء الزجاج.. سيدة امامي تفرك عينيها المرهقتين من قلة النوم والمبللتين بالنعاس رائحة القهوة والكرسون والفول المدمس والجبنة الرومي وعصير البرتقال، كنت ألوك لقمتي وأرتشف الشاي الساخن وأنظر إلى السفن الشراعية تتسارع اراقب التماع الشمس على النيل الداكن.. أترك المطعم أمر ببهو الفندق يسرني مشهد الوصال الذي لا يزال في القاهرة ما زال ساعي البريد بحقيبته الجلدية المنتفخة يصيح على موظفي الاستقبال «بوسطة».. ذهبت بعد ذلك إلى «مول» يتوسطه مقهى أخذت موقعي في المقعد الحديدي المشغول البارد رفعت رأسي في مواجهة الشاشات العملاقة التي تحاصر المقهى والتي تبث أغنيات مصورة بطولة مطربي «التيك أوي» وعري الفيديو كليب يختلط كل ذلك مع حلاوة النكهات الضبابية من أدخنة النرجيلة والروح المرحة من قبل شباب «زي الفل» يقدمون خدمة مميزة تسمع منهم الحمد لله وإن شاء الله تعبير جميل للرضى وإعلان حميم بالإيمان بالقضاء والقدر.. يراودني إحساس جامح للذهاب إلى «شارع أبو الفداء» حيث الماضي الجميل الذي عشته يوماً أستنشق رائحة أمي رحمها الله أتذكر ضعفها ورقتها ومؤازرتها لي وأستحضر لمة الأسرة حول سفرة الطعام، أصل «أبو الفداء» تستقبلني نسمة باردة.. أذهب إلى حيث كنت اقيم عندما كنت يافعاً أقتنص ما بعثره الزمان علناً أرنو بطرف بصري إلى ما خلف السور الحديدي العتيق الذي لم يشوه بعد.. ما زالت الأشجارة القديمة هناك لم تنلها خناجر التغيير.. في صحن الفيلا كان المساء يصب برونق على جذوع تلك الشجرة العجوز بحنان ويحاول عبثاً نزعها من عزلتها الدائمة بجوار ذلك السور أعود للفندق بعد ان آوى المصريون الطيبون إلى بيوتهم يخزنون فتات المرح في مساكنهم الضيقة ويرددون الحمد لله.. فعلا الحمد لله.