لم أفكر في زيارة عمان ولم أخطط لها من قبل حتى فوجئت بدعوة رقيقة من زميل طبيب تربطني به علاقة سرمدية يدعوني لحضور عقد قران ابنته كانت الدعوة في حجم الكف كتب عليها وبإخراج بسيط أدعوكم لحفل قران ابنتي فلانة على فلان أشكر لكم حضوركم وأرجو الاستعاضة عن إحضار باقة الزهور بالتبرع بقيمتها لمؤسسة كذا... للسرطان بناء على رغبة العروسين وذكر في البطاقة رقم الحساب وعنوان المؤسسة وموقعها الإلكتروني وشحنت نفسي إلى عمان كطفل في طرد بريدي وصلت عمان مساء .. ينفتح باب الطائرة أمشي المسافة القصيرة بين نقطة الجوازات ومكان التقاط الأمتعة كانت حقيبتي الجلدية تجري على السير الكهربائي وأصوات مرحبة بي تسقط على أذني كالعملات المعدنية القديمة «أهلين وسهلين» أخرج من المطار تستقبلني نسمة باردة.. لعمان رائحة جميلة لكل مدينة رائحة ترتبط ارتباطا وثيقا بالمناسبة والسبب الذي جئت من أجله لهذه المدينة .. أصعد السيارة السائق الذي أقلني يتذكر المسجل ينبعث من المسجل صوت أم كلثوم أراك عصي الدمع شيمتك الصبر يطفئ المسجل يعيد الشريط إلى الوراء ثم يفتحه ثانية على نعم أنا مشتاق وعندي لوعة يوقف المسجل من جديد كأنه كان يبحث عن مقطع ما في الأغنية أنشغل عنه بالنظر إلى مربعات الشقق المضاءة أترك عيني تتجولان ككاميرا سينمائية تركها مصور لتحدق وحدها في ألا شيء صور جميلة تتناثر ألوانها حولي كان كل منها يشبه لوحة معلقة ضمن إطار.. أسوار قديمة متآكلة.. بيوت قرميدية ذات شبابيك خشبية عالية خضراء شرفات تزينها أصص النبات وترتفع على بعضها ملابس مغسولة كالأعلام أقفاص طيور معلقة مصنوعة من القش القروي ما أجمل عمان من خلف الزجاج حوانيت متلاصقة وصبية بلون البن الأردني المحروق ينظفون واجهات المحلات مسنين يلعبون الطاولة ويتفرجون على الناس من حولهم في مقاهي تطل على الطريق الرئيسي ويشربون القهوة في فناجين فخارية كان الفضاء أبيض والسماء عالية جدا والهواء لطيفا عليلا له طعم ماء النبع كانت المسافة بين المطار إلى المنزل المقام به الفرح قصيرة ولكنها مميزة أصل الفيلا البسيطة التي يقام فيها الفرح آخذ موقعي في المقعد الحديدي المشغول البارد المغطى بوسائد زاهية اللون في حديقة الفيلا أضواء بسيطة تلتف حول السور الأسمر تعبيرا عن أن بهذه الفيلا «فرح» روح مرحة وارجيلة ورائحة تنباك يتطاير وركة قهوة ومشروبات غازية وشيوخ يرتدون الزي الأردني يمسكون بطرف مسابحهم الكهرمانية يحضنونها في راحتهم بهدوء لا يكفون عن بث الابتسامات العريضة المفعمة بالفرح والإشارة بأيدهم للأطفال .. الناس سعداء كلهم يعرفون بعضهم يبدو أن معظمهم أقرباء يتوافد المدعوون أهل الفرح يستقبلونهم بود تسمع فرقعة المصافحة بين الحين والآخر هناك نوع من السعادة الحقيقية تلمسه داخل هذا السور كان الفناء رطبا والأرض مغسولة نظيفة لها رائحة نقية والأطفال يمرحون في الفضاء الواسع كان هناك ضوء في كل مكان ولكنه لم يكن ضوءا باهرا يدخل العروسان تتشابك يداهما يختلسان النظر إلى المدعوين ويبتسمان العروس سمراء خضراء العينين سوداء الشعر .. هل هناك أجمل من ذلك!! كانت ترتدي ثوب زفاف أبيض بسيطا واسعا والتاج على رأسها تبرق فيه فصوص الزركون البيضاء جوارها والدها والعريس ضئيل الجسم حتى تحسبه صبيا في الثامنة عشرة مبتهجا كطفل جلسا في مقعدين متجاورين «لم يكن هناك كوشة لم يكن هناك زهور» قام المدعوون لمصافحتهم وتهنئتهم قاربت الساعة الحادية عشرة قبل منتصف الليل كان «عمر العبدلات» يشدو من مسجل صغير «حبوبي» قمنا للعشاء كان العشاء أطباقا أردنية لذيذة صنعت بمقدار ومقياس على عدد الحضور لم يكن هناك طعام فائض لم يكن هناك طعام من الخارج فالسيدات المدعوات شاركن في إعداد الطعام كانت هناك قطعة كيك أخذ الحضور كل منهم قطعة وانتهى الحفل مع منتصف الليل وخرجت من الفيلا خلعت نظارتي وأخذت أمسحها بمنديل أردد مع نفسي هذا فرح بسيط سيعمر كأشجار الزيتون وسيكون طويلا كالنخل كان هناك تباين واضح ومسافة شاسعة بين هذا الاحتفال وآخر احتفال حضرته في جدة وانتصب السؤال وأنا أسمع صوت المنادي يعلن موعد صعود الطائرة هل نحن عاجزون أن نزوج أبناءنا زواجا صامتا لا كوشة فيه ولا زهور وهل نقصر في حق أبنائنا إن فعلنا ذلك!! وجلست بعد ذلك في مقعدي الجلدي البارد داخل الطائرة والذي تزيد نعومته من برودته ومددت ساقي في استرخاء مستسلما لحلم مؤجل عله يجيء.