لا فرق بين شهادة الولادة وشهادة الوفاة، عندما يمر بينهما قرار التقاعد كسكين يجز رأس الحلم عن ثلاثة أرباع الذكريات، فالمتقاعدون إما لاجئون في أحلامهم، وإما مهاجرون بذكرياتهم. فحين يتم تجريدك من بطاقة العمل وبطاقة الدخول أمام بوابة أمضيت العمر بها ومنها وحين تقفل الباب بينك وبين تاريخك وتجربتك وثلاثة أرباع عمرك، وحين يودعك زملاؤك مسرعين، كي لا يكتشف المسؤول أنهم يضيعون وقتهم في وداع زميل انتهت علاقته بالعمل، عندها فقط تضيق الأرض بخطواتك التائهة، وتزداد الجدران اصطكاكا وطولا وعلوا والوجوه تفر من ملامحها، فتصرخ بك الأمكنة والأزمنة ويتردد الصدى في ملامح الناس الذين لا يكترثون. عندئذ تتكالب عليك مؤسسة التقاعد والتأمينات الاجتماعية بأنظمتهما التي جنحت بهما بأهداف هاتين المؤسستين إلى الربحية المطلقة حتى أكلتا المتقاعد لحما ورمته عظما. وحين يستجير المتقاعد بوزارة الشؤون الاجتماعية من جور مؤسستي التقاعد وأنظمتهما، يكون كالمستجير من الرمضاء بالنار. فوزارة الشؤون الاجتماعية بتاريخها الطويل فشلت فشلا ذريعا تفرق بين جمعيات البر والجمعية الوطنية للمتقاعدين، التي هي أكبر خزان وطني للخبرات والتجارب التراكمية، والموارد البشرية. فقد بلغ عدد المتقاعدين رقما يلامس سقف المليون متقاعد، بينما جمعيتهم بمجلس إدارتها تصارع عقولا إدارية تحتكر القرارات وتمارس إدارة شخصية مركزية متيبسة، حرفت الجمعية عن مسارها وعن أهدافها وجنحت بالعمل التطوعي خارج مدار تطلعات المتقاعدين والدور الاجتماعي والاقتصادي لهذه الجمعية. كان المفترض أن تغذي الجمعية الوطنية للمتقاعدين كل الجمعيات الأهلية والخيرية بكوادرها البشرية، بدلا من أن تساوي أنظمة وزارة الشؤون الاجتماعية بين هذه الجمعية العميقة مع سائر الجمعيات، فهل يستقيم يا وزارة الشؤون الاجتماعية المساواة بين من يقدم الخبرة ومن يستفيد منها؟ وإلى متى تقف الوزارة بجانب أنظمتها ولوائحها التي يبدو أنها بحاجة ماسة للمراجعة في ضوء مشكلات تعصف بالعديد من الجمعيات، حتى بلغ الأمر بمجالس الإدارة لبعض الجمعيات لم يتغير منذ ما يقارب الخمس عشرة سنة، بعض تلك المجالس لا تنعقد أبدا؟ وهل يجوز أن تبقى الجمعيات وجاهة اجتماعية للبعض، فيما الهدف من تأسيسها يبقى بعيدا عن المسار؟ وهل يستقيم المساواة بين الجمعيات التي تعمل والتي لا تعمل؟ وما معنى نظام الجمعيات إذا بقي حبرا على ورق؟ وما معنى الانتخابات في الجمعية، إذا كان رئيس الجمعية يتخذ قراراته دون الرجوع لمجلس الإدارة المنتخب؟ ولماذا يتعمد حجب التقارير المالية والإدارية عنهم في مخالفة صريحة للنظام؟ ولماذا يتم تعطيل الخطط المقرة والمعتمدة من الدورات الإدارية السابقة؟ أين الدراسات والبحوث التي نصت عليها الأهداف الرئيسة للجمعية؟ ألم يكن بنك المعلومات للمتقاعدين المنتسين عمودا فقريا للجمعية الوطنية للمتقاعدين بنشاطاتها المختلفة؟ كيف تتم الاستفادة من خبرات المتقاعدين وهم لا يزالون مجهولين في سوق العمل ومجهولين حتى للجمعية بسبب غياب بنك المعلومات الذي كان حتميا لإطلاق أكبر مشروع وطني لإمداد سوق العمل على اختلاف مؤسساته بطاقات بشرية مؤهلة وعلى درجة عالية من الخبرة؟ لماذا تبقى العلاقة بين الجمعية وفروعها ملتبسا وضبابيا تحكمه الأهواء والمزاجية والفوضى؟. لقد حان الوقت لتتدخل وزارة الشؤون الاجتماعية لوقف التشظي في مجلس إدارة الجمعية الوطنية للمتقاعدين، ولو بحل المجلس، وتجاوز المصالح الشخصية والنظرات الضيقة، لتكريس عمل الجميع للمتقاعدين أنفسهم، فهناك الكثير الذي يجب عمله من قبل هذه الجمعية لحفظ حقوق المتقاعدين خاصة العسكريين الذين يتقاعدون في سن مبكر مقارنة بالمدنيين. كما أن هناك دورا بالغ الأهمية للجمعية يجب أن ينصب على تغيير أنظمة المؤسسة العامة للتقاعد والمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية لتكون هاتان المؤسستان أكثر اجتماعية وإنسانية مع الحفاظ على توجهاتهما الاستثمارية. هناك دور أساسي للجمعية للضغط على المؤسسات الحكومية والتجارية لتتعامل مع متقاعديها بما يحفظ كرامتهم وإنسانيتهم وتاريخهم العملي وأن تتيح لهم التسهيلات والخدمات الضرورية. يجب الاستفادة من تجربة أرامكو وهي رائدة في تكريم متقاعديها، فضلا عما توفره لهم من سكن ورعاية صحية أثناء خدمتهم وبعدها، وحسب فهمي هي لا تزال تقيم لهم لقاءات دورية وتطلعهم على ما وصلت إليه الشركة وأعمالها. من الضروري أن تنهض وزارة الإسكان بمسؤولياتها وتتعاطى مع المتقاعدين، كأولوية خاصة، خاصة أن الإحصاءات تبين أن ما يفوق 40% من المتقاعدين لا يملكون سكنا. أظن أن الحاجة ماسة لوجود مجلس من المتقاعدين في كل منطقة من مناطق المملكة، ينبثق عن جمعية المتقاعدين يكلف برفد الإدارة الحكومية والقطاع الخاص والمجتمع المدني بالخبرات، وتناط بها النشاطات التي تحتاج للخبرة أكثر من الحاجة للتخصص. أخيرا، يجب وقف كافة أنواع التمييز ضد المتقاعدين والذي تمارسه البنوك المحلية وشركات التأمين وشركات السيارات والفنادق والشقق، فضلا عما تقوم به المؤسسات الحكومية والتجارية ضد متقاعديها من حرمانهم من الأندية الرياضية والاجتماعية والثقافية والتسهيلات والخدمات التي يحظى بها العاملون بها، حتى فقدوا توازنهم النفسي وكادوا أن يفقدوا هويتهم، إنما المتقاعدون مواطنون، وقبل ذلك بشر مثلنا وبعد ذلك موظفون خدموا كما يخدم زملاؤهم الحاليون، وهم لا يطلبون صدقة فهم أهل حق، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، فهل نحفظ لهم كرامتهم وإنسانيتهم وفضلهم علينا؟.